تُسهم العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية والتقنية والديموجرافية في فرض أسلوب المعيشة على الفرد أو الجماعة أو الدولة بأكملها، ويسمى ذلك بنمط الحياة، ويرتبط هذا النمط بجودة الحياة الذي يشكل مدى وعي الفرد بسلوكه الصحي وفق آليات التربية التي يتلقاها؛ حيث يُعدل الأفراد من سُلوكياتهم التي تتصل بصحتهم البدنية والنفسية، من خلال ما يتوافر لديهم من خبرات تساعد في تأكيد اتجاهاتهم الإيجابية نحو ما هو صحيح، وتكوين اتجاهات سلبية نحو ما هو ضار، ومن ثم حماية أنفسهم من المشكلات التي قد تواجههم.
وتُعد الثقافة الإنجابية من أولويات التربية الصحية؛ إذ تشير إلى مجمل الخبرات الصحيحة (معرفة _ سلوك _ وجدان) المرتبطة بالصحة الإنجابية؛ ليحافظ الفرد على سلامته البدنية والعقلية والنفسية، ومن ثم يتمكن من تكوين أسرة وإنجاب أولاد أصحاء، ويؤدي ذلك إلى أن يعمل الفرد على تحسين نوعية حياته في ضوء ما يتخذه من قرارات تتسق مع قيم مجتمعه تساعده على التوافق والتكيف، وتحقق نوع من الرضى النفسي لكل ما يدور حوله من مجريات أحداث.
وتكمن الثقافة الإنجابية في مقدرة الفرد على تحديد السن المناسب للزواج، ودرايته بأهمية الفحص الطبي قبل الزواج، ومقدرته على التخطيط للحياة الزوجية، ويقينه بأن رعاية الحمل مسئولية مشتركة بينه وبين زوجته، وعلمه بضرورة الرعاية المتكاملة للطفل حديث الولادة، ومعرفته بصور الأمراض المنقولة جنسيا، ومطالعته للعادات الإنجابية الضارة، والتي قد يكون منها ظاهرة زواج الأقارب.
وهناك مفهوم رائج تمخض عن الثقافة الإنجابية وهو الصحة الإنجابية والذي يُعد الوعي به من أساسيات السلامة المجتمعية؛ إذ يشكل سياجًا لمواجهة المشكلات الصحية التي تواجه البشرية جمعاء، وعليه، فإن الصحة الإنجابية تعني الوصول إلى مستوى السلامة البدنية والنفسية والاجتماعية والعقلية للجنسين الذكر والأنثى، والمتعلقة بسلامة الجهاز الإنجابي (التناسلي) وعملياته ووظيفته، في جميع مراحل الحياة، ومن خلال اتباع مجموعة من الطرائق والأساليب والخدمات الصحية المناسبة.
وتستهدف الصحة الإنجابية إكساب الفرد معلومات وظيفية مرتبطة بصحته، وغذائه، والأمراض الجنسية، وتوفير الرعاية الطبية للصحة الجسدية والعقلية، مع تقديم المشورة حال طلبها لتحقيق تلك الرعاية، بما يسهم في تحسين نمط الحياة ويدعم العلاقات الشخصية لأفراد المجتمع، وهذا ما يؤدي إلى خفض معدلات المرض والوفاة بين أفراد المجتمع.
وتحقق الصحة الإنجابية ماهية التكافؤ بين أطياف المجتمع؛ حيث توفير الرعاية المستحقة للجميع، بما يؤدي إلى التنمية في الموارد البشرية ومن ثم تحقيق التنمية الاقتصادية المرتقبة في صورتها المستدامة.
وما تعاني منه المجتمعات من مشكلات صحية متنامية لأعداد المصابين، أو المرضى سواء الأمراض الجنسية التناسلية، والأمراض السرطانية، وأمراض سوء التغذية، والأمراض النفسية، الناجمة عن المشكلات المختلفة، يرجع إلى ضعف الوعي بالصحة الإنجابية؛ لذا أضحى الوعي بقضايا الصحة الإنجابية مطلبًا رئيسًا لتحقيق الصحة العامة للمجتمع بأكمله.
ويرتبط بالصحة الإنجابية أبعادًا عديدة، يتطلب من الفرد معرفتها ليتعامل معها بشكل صحيح، ويتجنب التصرف غير القويم نحوها؛ فهناك التغذية السليمة، ومكونات وخصائص العضو التناسلي الذكري والأنثوي، وأمراض الجهاز التناسلي، وقضايا الدورة الشهرية، وانقطاعها، وأهمية الفحص الطبي قبل الزواج، والإخصاب الصناعي، ومشكلات الولادة الطبيعية والقيصرية، ومشكلات العقم المستديم، والعقم المؤقت، وعلاجهما، والأمراض المنقولة جنسيًا، والتلوث (المائي- الهوائي - الغذائي - الضوضائي) وأثره على الإخصاب، وأضرار التدخين ومخاطر المخدرات، وفوائد الرضاعة الطبيعية وسلبيات الرضاعة الصناعية، وتنظيم الحمل والنسل، ووسائله، إلى غير ذلك من القضايا الشائكة.
ونود الإشارة إلى ضرورة إرشاد كل من الذكر والأنثى نحو المنهج القويم في مجال الجنس، وتربيتهم على ذلك المنهج لتحقيق الغاية من الدافع الجنسي، وهو ما يمسى بالتربية الجنسية؛ حيث كل ما يمكن تقديمه من معلومات صحية ترتبط بالمعلومات والحقائق العلمية المتعلقة بالنمو الجنسي، شريطة أن تتسق مع القيم والضوابط الاجتماعية والأنماط الثقافية السائدة بالمجتمع، بدءًا من تنمية الصفات المميزة بين الجنسين، مرورًا بمظاهر البلوغ وحقائق التكاثر، وكل ما له علاقة بهذا الموضوع الحيوي من الناحية البيولوجية والنفسية والاجتماعية، بما يؤدي إلى تأهيل الفرد لينمو نموًا سليمًا ويقوم بدوره الوظيفي في حياته الأسرية دون انحراف.
وفي إطار التربية الجنسية نؤكد على أهمية البُعد عن طرائق كبت الغريزة الجنسية، وإنما التهذيب والتصرف وفق المعلومات الصحيحة المرتبطة بمراحل النمو العاطفي والعقلي للتعامل مع تلك الغريزة الفطرية في إطار القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع، يُعد المسلك الآمن الذي نحافظ به على الصحة العامة والانجابية، ونحقق من خلاله مصلحة الفرد والمجتمع، ونضمن به حفظ النسل، وانتظام دورة الحياة في صورتها المتزنة، بعيدًا عن الفوضى والفساد الناتج عن تلبية الغرائز بصور تؤدي إلى الهلاك.
ويقع على المؤسسة التربوية وسائر المؤسسات الاجتماعية المعينة بإعداد الفرد- القيام بدورها التوعوي تجاه هذه القضية المهمة؛ إذ ينبغي إكساب أبنائنا أهداف التربية الجنسية المتمثلة في إمدادهم بالخبرات الصحيحة عن الجنس لاستيعاب وفهم عملية التكاثر البشري اللازمة لحفظ الإنسان واستمرارية الحياة على الأرض، وتوعيتهم بالآثار المترتبة على استخدام الجنس في إطاره غير الصحيح، وما يؤدي جراء ذلك من مشكلات جنسية واضطرابات نفسية وأمراض تناسلية خطيرة، ومن ثم تعمل التربية الجنسية على تسليح الأبناء بالمبادئ والقيم والاتجاهات الإيجابية المرتبطة بالجنس والسلوك الجنسي في مراحل نموهم الطبيعية.
إن ما تقدمه المؤسسة التربوية من أنشطة مقصودة تستهدف تنمية الإحساس بالمسئولية الشخصية والاجتماعية تجاه الجنس، واحترام العلاقات الصحيحة بين الجنسين، يؤدي بالضرورة لتكوين علاقات عاطفية سليمة، قد تساعد الفرد أن يختار شريك حياته المستقبلي ويرتبط به بالميثاق المجتمعي (الزواج) الذي يسهم في تكوين الأسرة، ويحقق السعادة لمكوناتها على الأمدين القريب والبعيد.
وحري بالذكر أن التربية الجنسية تجنب الفرد الوقوع في التجارب الجنسية بدافع الرغبة فقط، وهذا يقوم على مبدأ إزالة الجهل تجاه الأمور الجنسية؛ ليصبح الفرد مسئولًا مسئولية تامة عما يتخذه من قرارات ترتبط بسلوكه الجنسي، وهنا تساعد التربية الجنسية على تقوية إعلاء الفرد للدافع الجنسي عن طريق احترامه لذاته وضبط النفس والتعفف والاعتدال في إشباع الغريزة الجنسية بما يمنحه الصحة والشعور بالسعادة.
ولا ريب فإن مجتمعنا القويم في احتياج لأن يبدد المخاوف ويزيل القلق والأوهام المرتبط بالقضايا الجنسية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالصحة الإنجابية، ومن ثم تتكون الثقافة الإنجابية لدى أفراده، وتتحقق لهم جودة الحياة في إطار ما يؤمن به من قيم نبيلة.
ودور الدولة المصرية في ما تقدمه من خدمات صحية وتوعوية عبر مبادراتها المتعددة خير شاهد على هدفها السامي المتمثل في الاستثمار البشري؛ لتحيا أجيال تمتلك الصحة البدنية والعقلية، والتي تعمل على تحقيق نهضتها ورفع رايتها وتقدمها في شتى مجالات الحياة.
ويعد اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالمجال الصحي والتوعية الصحية نموذجًا يحتذى به في الجمهورية الجديدة؛ حيث اتخذت الدولة بفضل توجيهات قيادتها الرشيدة الإجراءات التي ساهمت في النهوض بصحة المواطن وفق معيار العدالة والمساواة بهدف تحقيق التنمية الصحية الشاملة؛ فأطلقت البرامج والمبادرات التي وفرت على أرض الواقع الحياة الكريمة للمواطن المصري، ولم يقتصر الأمر على ما تقدمه الدولة من خلال القطاع الصحي من علاج، بل اهتمت بصورة قوية على تعضيد الوقاية، وهذا الأمر يقوم على أبعاد التوعية، فالشراكة الفاعلة بين مؤسسات الدولة أمرًا لا مناص منه.
حفظ الله أولادنا ووفق قيادتنا السياسية إلى تحقيق غايات جمهوريتنا الجديدة التي نفخر بالانتماء لترابها، ونعتز بشرف خدمتها ما حيينا.