لم تكن المشاعر محايدة تجاه يونيو سابقًا، ولا الآن، وأحسب أنها لن تكون. بين كل شهور السنة ظل شهرًا ذا طبيعة خاصة. يُبشّر الربيع بالحر لكنه لا يقع إلا فى يونيو، ويجتهد الطلاب طوال العام ولا يحصدون إلا فيه، وتتجدّد الحياة مع كل طلعة شمس؛ إنما كثيرًا ما تصطبغ بنكهة مُغايرة فى يونيو أيضًا.. ربما ظلّت علاقتنا به مُلتبسة منذ النكسة، ورغم عبورنا آلاف المحطات بين: الفرح والحُزن، الإنجاز والإخفاق، والأمل واليأس، لم ننس له ما حمل إلينا ذات ظهيرة، ولم يحظ بترحيب من الناس كبقية الشهور، بل ظلّت فى النفس حاجة عميقة إلى التصالح معه، وابتكار رواية مُغايرة تحفظها الذاكرة وتُسجّلها مدوّناتنا الوطنية، وهو ما تحقّق ذات ظهيرة أيضًا قبل عشر سنوات.
ظل يونيو راسخًا فى وعى الأجيال اللاحقة انطلاقًا من أنه شهر الاختبارات الجادة والفرحة المُؤجَّلة؛ إما لأن ملايين الطلاب يخوضون فيه امتحاناتهم الدراسية، أو ينتظرون نتائجها، وهو مفتتح بهجة الصيف لكننا فى الغالب لا نمارسها على الوجه الأمثل فيه. تتلوّن الشوارع والأسواق بصنوف الفاكهة فى أهم مواسمها، وتعيش البيوت طوارئ الدروس والمذاكرة، ويبدأ الترتيب للمصايف والرحلات، ونظل فى انتظار تحسُّن المذاق وإعلان النتائج وحجز المواعيد وتدبير نفقات السفر. يُبشّر يونيو دائمًا بالحياة؛ لكنه لا يسمح بالاستمتاع بها كاملة، ليترك فرصة الانطلاق والمتعة لنهارات يوليو وليالى أغسطس وأحاسيس سبتمبر بنفاد الوقت وتكرار دورة الفصول. هو أقرب إلى تكثيف الأيام وخُلاصة خبرة الزمن وحكمته، ينتصف العامَ ويتوزّع على فصلين، يفتتح مواسم الإجازات والسفر ويختتم سنة الطلاب والحكومة، هو شهر وفرة من زاوية تعدّد الخيارات فى كل شىء، وشهر تقشّف من ناحية انتهاء موازنة الدولة وإرهاق ميزانيات الأسر. يونيو قصة حب وخصام مُتقلّبة بين غريمين مُتحاربين دائمًا.
افتتحنا خبرتنا الحديثة مع الشهر من حرب 1967. كانت انتكاسة وطنية حملت بشائر قطيعة جذرية معه، وكراهية لما سجّله علينا من جهلٍ بأنفسنا، وسجّله لنا من مرارة الغدر واقتطاع الأرض؛ لكنه رغم ذلك كان مُفتتحًا لتصالحٍ قريب، بدأ فيه التحضير للثأر واستعادة الكرامة؛ لتكون معركة «رأس العش» فى مطلع يوليو دليلاً سريعًا على أننا استوعبنا درسه وتجهّزنا للامتحانات الناشئة عنه، ثم انطلاق حرب الاستنزاف العظيمة فى يونيو التالى مُباشرة. بقدر ما حمل رسائل قاسية وسبّب جروحًا غائرة، كان الشهر نفسه بداية رحلة التعافى، ووصفة العلاج، والمرتكز الذى بُنيت عليه خبرةٌ عميقة بأحوالنا، ورؤيةٌ أوسع لما يُحيطنا من استهداف وتحديات. يستحق يونيو الامتنان حتى فى محطة الهزيمة؛ إذ لولاها ما كان سدّ الثغرات وترميم البيت وشقّ الطريق العريض نحو النصر لاحقًا.
أعلن عبد الناصر تنحّيه عن الحُكم فى يونيو، وخرج الملايين رافضين ومُجدّدين العهد مع قائدهم. لم يبخل الشهر على الزعيم بمواعيد مبهجة ومساحات ناصعة فى الذاكرة؛ فقبل ذلك بنحو أحد عشر عامًا غادر آخر جندى بريطانى محيط قناة السويس تنفيذًا لاتفاقية الجلاء، والفضل فى كمال الانعتاق من احتلال 74 سنة لـ«ناصر» ودولة 23 يوليو. وفيه أيضًا أُعلن مشروع روجرز عام 1970؛ ليكون بين أواخر قرارات الرئيس الراحل قبل 3 أشهر من وفاته، والغطاء الذى سمح باستكمال بناء حائط الصواريخ وتأهيل الجبهة لخوض معركة الثأر والتحرير بعد ثلاث سنوات، قبل أن تسقط المبادرة الأمريكية عمليًّا فى شتاء العام التالى. لم نكن نكره يونيو على الوجه الدقيق؛ إنما كان فى القلب شىء منه، أقرب إلى التحفّظ والعتاب النبيل، وإلى انتظار الفرصة المواتية لأن نبحث له عن تعريف آخر، ونُعيد صياغة علاقتنا به على الوجه الذى يُرضينا، ولا يُحيل الالتباس القائم إلى عداء مُستحكم وقطيعة دائمة.
عندما وقف الإخوانى محمد مرسى فى ميدان التحرير ظهيرة 29 يونيو، مُستبقًا موعد حلف اليمين أمام المحكمة الدستورية فى اليوم التالى، كُنّا أمام انتكاسة هيكلية، يُراد فيها أن تتحلّل ركائز الدولة لتُوضع فى يد الجماعة وقواعدها. وعندما جلس بعدها بسنة كاملة وسط زُمرة من أشياعه والمُتواطئين معه، طارحًا ملف «سد النهضة» على الهواء، ومُقدّمًا وثيقة بصرية عن كيف يكون حُكم المُختلين والمتآمرين وعصابات الرجعية الدينية؛ كُنّا أمام نكسة جديدة تضرب فكرة الدولة فى القلب، وتُهدّد بإراقة دم قضاياها الحيوية على عتبة الجهل والشعبوية والبحث عن بطولات مجانية تافهة. بين المشهدين كانت «30 يونيو» استجابة حقيقية لسؤال وجودى: هل يترك المصريون وطنهم ومصيرهم فى أيدى حفنة من الأغبياء ومُتضخّمى الذوات دون أمارة أو جدارة، أم ينتفضون لاستنقاذ ما يُمكن قبل أن تُدفع البلاد والعباد إلى مسارات لا نأمن عاقبتها؟!
يونيو 2012 لا يختلف عن يونيو 1967، من زاوية أنهما حملا تهديدًا حقيقيًّا للدولة الوطنية، ومساسًا مُباشرًا بفكرة السيادة والاستقلال، وبالمثل لا يختلف يونيو حرب الاستنزاف/ 1968 عن يونيو الثورة/ 2013، إذ كانا بداية الانعتاق من ثقل الهزيمة التى أرادت قضم الأرض لفائدة عدو جغرافى مباشر، ووصاية التنظيم الساعية إلى تذويبها فى أجندات ومصالح أعداء ثقافيّين، يتربّصون بالهوية وإن باعدت بيننا الجغرافيا. عندما قرأنا درس الهزيمة عرفنا طريق الاستنزاف ووقعنا على إجابات النصر، وحينما استشعرنا خطورة أن تكون خطابية المنصّات حكمًا فوق رزانة المؤسَّسات، وأن يُوضع مكتب الإرشاد فوق قصر الرئاسة، وصلنا إلى الخُلاصة الموجِبة لأن يتقدّم الشارع خطوة للأمام، ويأخذ زمام المبادرة من أيدى التنظيم وضباعه، فكانت الثورة طريقًا واحدة وضرورية ولا بديل عنها للخلاص.
سقطت حساسية يونيو القديمة. يُمكن الآن أن نُجرّب الشهر ونكرّر تجاربنا من دون أثر لأوجاع الماضى وجروحه، فلم يعد يستدعى إلى الذهن إلا معنى الثورة، وجوهر المبادرة والقدرة، وصورة الجموع فى ميادين مصر وشوارعها. تراجعت كل خبراتنا السابقة معه إلى الوراء كثيرًا، ولم يعد حاضرًا إلا المشهد الجامع لكل المصريين، فى مواجهة تنظيم اختار أن يجلس على مقعد العدو، وأن يجرى عليه فى الوعى والذاكرة ما جرى سابقًا على كل خصومنا من لصوص ومُحتلين. الأثر أن مصر تحرّرت قولاً وعملاً من مُخطّط واسع لتقويضها وإلحاقها بمشاريع إقليمية «عرقية أو مذهبية» مشبوهة تحت لافتات عقائدية، وغسلت وجهها من آثار نفخ الجماعة لمساحيق الفتنة والتطرّف وشق الصف، وأرست وصفة ناضجة للتحصين ورفع المناعة مُستقبلاً؛ لكن الأهم أنها وجهت ضربة قاصمة للأصولية الدينية وطموحات الإسلام السياسى فى الإقليم كاملاً، وأنهت فصلاً يتجاوز ثمانية عقود من محاولات إعادة تعويم شمولية الحُكم العقائدى تحت شعارات الخلافة أو الأستاذية، وساعدت نطاقات مجاورة على الانتفاض وكسر طوق الإخوان عن أعناق بعض الدول، انطلاقًا من خنق مركز التنظيم وقلبه فى القاهرة، وإلى كل ذلك رمّمت علاقتنا النفسية مع يونيو، وأكسبته بُعدًا وطنيًّا مُبهجًا، يُجفف الرواسب القديمة، ويؤسس لحالة احتفالية يُمكن أن تكون السد المنيع مستقبلاً أمام محاولات العودة واختراق جدار المجتمع.
ربما كان الإخوان يعتبرون يونيو شهر حظّهم؛ صحيح أنهم نجحوا فى خداع الجميع وصعدوا إلى السلطة فيه؛ إلا أن الأمر يسبق ذلك بكثير. تأسَّست الجماعة أوائل 1928 لكنها افتتحت أول مقرٍّ ومسجد لها فى يونيو 1929، ليشهد الشهر فى الأعوام التالية: عقد أول مؤتمر دورى، وإنشاء مسرح الإخوان من أجل الدعاية والتغلغل فى أوساط الفنانين والنخبة، وانعقاد أول اجتماع لمجلس الشورى العام، وإصدار مجلّة أسبوعية، وإعلان انطلاق التنظيم الدولى بـ18 شعبة فى 11 دولة. كانت أغلب تلك الخطوات نقاطًا مفصليّة فى الرحلة المشبوهة، إن على مستوى التأسيس والانتشار، أو الهيكلة ونُظم الإدارة، أو اختراق الإعلام والفن، أو التوسُّع خارج الحدود والسعى لاكتساب صفة الأُمميّة. ربما لهذا اعتبروا الرئاسة محطّة تنظيمية مثل كل ما سبق، وأن يونيو يحمل إليهم تتويجًا لجهود المناورة والتلوّن والالتفاف الطويلة برسم ملامح مرحلة التمكين، ولم يضعوا فى حسبانهم أنه يُمكن أيضًا أن يكون شاهدًا على التداعى وانقضاض أُسس الجماعة، والختم عليها باستنفاد الغاية ونفاد شروط الصلاحية والبقاء.
مارس التنظيم حماقات فاضحة وتلقى ضربات قاسية خلال يونيو. قبل أقل من أسبوعين على طردهم من الرئاسة أعلن «مرسى» قطع العلاقات مع سوريا، ثم كانت أوقح إطلالاته قبل 4 أيام من الثورة بخطاب تجاوز 150 دقيقة من لغو الكلام وحشو البجاحة. فى 2012 انتصرت المحكمة الدستورية للقانون بحل مجلس الشعب الذى هيمنت عليه الجماعة، وفى 2013 حلّت مجلس الشورى للسبب نفسه، وبينهما سقطت الجمعية التأسيسية بالمنطق والعُرف وإن حاولوا تحصينها بالبلطجة والتزييف. فى يونيو أيضًا تصاعد موقف الأوبرا وفنانيها المضاد للجماعة ووزيرها التافه، وأعلن المثقفون اعتصامهم فى مقر الوزارة، وماج الشارع بتحركات شجاعة لكل الفئات؛ فبرز الشباب والنساء والشيوخ فى حملات «تمرد» ومسيراتها وتجميع استماراتها، وتجلّى دفتر الحضور الوطنى مُنوّعًا لا يغيب عنه وجه أو فئة. كان يونيو ثريًّا وموّارًا بالتفاصيل، الصعب فيها والسهل، جميعها تؤكد أننا إزاء التقاء للإرادة الجمعية، ربما كما لم يحدث من قبل.
ذهب الإخوان إلى مزبلة التاريخ؛ على الأقل فيما يخص خداعهم للأصدقاء قبل الخصوم، وخيانتهم لطيبة الناس وتسامحهم، وأخيرًا عملهم المُباشر ضد الدولة، من حيث هى جغرافيا واجتماع وهويّة وتاريخ؛ لا سلطة ونظام حُكم فقط. صحيح أننا قضينا سنة سوداء تحت حكم الجماعة؛ إلا أن ما تلاها يستدعى البهجة والرضا، لا سيما وقد طرحناها أرضًا كما يليق بها. ما جرى فى يونيو كان من فعل المناعة، وتلك إشارة إلى صحّة الجسد، وسلامة العقل، وعافية الجبهة الداخلية وحصانتها أمام ألاعيب حُواة الدين ومَن يذهبون مذهب الدواعش والحشاشين وكل تجّار الاعتقاد. دفعنا فاتورة باهظة لصعود التنظيم، وفواتير أفدح للخلاص منه؛ لكننا عرفنا طابورًا جديدًا من أعدائنا، واستوثقنا من رسوخ هويّتنا وتجذُّرها فى أعمق طبقات الوعى لدى المصريين، على تفاوت طبقاتهم وخلفياتهم، وبعكس ما قد يتوهّمه الأشرار عنهم. ها هو يونيو يعود بامتحاناته وفاكهته ومصيفه، ويُؤكد من جديد أنه يُجيد صياغة الاختبارات الصعبة؛ حتى تكون الفرحة مُستحقّة وصادقة.