ربما لم يعد خافيا على أحد أن الاقتصاد بات جزءً لا يتجزأ من السياسة، بل ويساهم بدور بارز في تشكيل الدور الذي يمكن أن تقوم به الدولة، وهو ما يبدو في العديد من النماذج الدولية، على غرار الصين، والتي تمكنت من خلال صعودها الاقتصادي، من التواجد بقوة على قمة المشهد العالمي، بل وإعادة صياغة النظام العالمي، عبر الانتقال من الهيمنة الأحادية، نحو حقبة من التعددية، ربما مازالت لم تتشكل حتى الآن بكامل صورتها، إلا أنها تتجلى في الأفق، إلى الحد الذي دفع القطاع الأكبر من دول العالم، إلى استلهامها، عبر إعادة هيكلة تحالفاتها، نحو إطار أكثر اعتدالا بعيدا عن الدوران في فلك واحد، على غرار العقود الماضية.
ويبقى الاستثمار أحد أهم وجوه الاقتصاد، الذي يمكن توظيفه دبلوماسيا في الآونة الأخيرة، عبر العديد من السياسات، ربما أبرزها تقديم الدعم للمشروعات من قبل القوى الكبرى، لصالح حلفائها، وهو ما بدا على سبيل المثال في النهج الأمريكي، تجاه دول المعسكر الغربي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من خلال سياسات إعادة الإعمار، وتقديم الدعم الاقتصادي لهم، ناهيك عن سياسات أخرى، كالتجارة الحرة وغيرها، والتي من شأنها تحسين الأوضاع الاقتصادية لدى دول المعسكر الموالي لها، بالإضافة كذلك إلى تصدير رجال الأعمال إلى الدول الأخرى، للقيام بمشروعاتهم بها، مما يساهم بصورة كبيرة في تحقيق حالة من الرواج الاقتصادي.
إلا أن الرؤية التقليدية فيما يتعلق بـ"دبلوماسية الاستثمار" ساهمت في تحويل العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها، إلى آلية "المنح والمنع"، وهو ما بدا مؤخرا في السياسات الأمريكية، والتي لم تقتصر على "الدول المارقة"، وإنما امتدت إلى الحلفاء، عبر العودة إلى زمن التعريفات الجمركية، أو تقليص الاستثمارات، وهو ما يرجع في الأساس إلى ارتباط الرؤية الاستثمارية في الأساس بعملية ضخ الأموال، سواء بصورته المباشرة، عبر إدخال مليارات الدولارات إلى الدول الأخرى، سواء في صورة مشروعات أو أموال، أو بصورة غير مباشرة عبر السماح لمنتجات الدول الأخرى بالدخول إلى الأسواق الأمريكية دون عوائق، وهو ما يصب بالإيجاب على الوضع الاقتصادي للحلفاء، بالإضافة كذلك إلى ارتباطها بطبيعة رأس المال، والذي لا يميل إلى المجازفة في أحيان كثيرة، في ظل تقلبات الأوضاع الدولية العامة، وتصاعد احتمالات الخسائر.
وهنا تتجلى أهمية الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، عبر توظيف جديد لـ"دبلوماسية الاستثمار"، والتي تقوم في الأساس على الاستثمار في الخبرات المتاحة في كافة المجالات، وتصديرها إلى محيطها الإقليمي، خاصة في إفريقيا، وهو ما يبدو بوضوح في العديد من المشروعات التي أقدمت عليها دول القارة، بينما ساهمت فيها مصر بخبراتها وكوادرها، لتعكس بذلك عدة حقائق مهمة، أبرزها إدراك طبيعة المرحلة الدولية الراهنة، والتي ترتبط بالأساس بتحقيق التنمية المستدامة، والتي تعتمد أساسا على امتداد العملية التنموية، لتشمل كافة القطاعات، وتمددها الجغرافي، بحيث لا يقتصر على دولة أو دول بعينها، وإنما تبدو عملية الاستدامة مرتبطة في الأساس بالتنمية "الجمعية" للأقاليم الجغرافية.
فلو نظرنا إلى سد "جوليوس نيريري" في تنزانيا، كنموذج لـ"دبلوماسية الاستثمار"، نجد أنه يمثل أحد أهم الصور التي تعتمدها الدولة المصرية في التعامل مع محيطها الإقليمي، عبر دعم العملية التنموية، بعيدا عن سياسات "إفقار الجار"، والتي باتت تهيمن على الأوضاع العالمية، في الآونة الأخيرة، وهو ما يبدو في تصدير الأزمات، والعودة إلى سياسات الإغلاق، والانقلاب على المبادئ التي أرستها القوى الكبرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهو ما يساهم في خدمة الدبلوماسية المصرية، عبر العديد من المسارات، أولها تعزيز مناخ الثقة الإقليمية، على المستوى القاري، في الدور الذي تلعبه القاهرة، ليس باعتبارها منافسا، وإنما كشريك حقيقي، يسعى إلى تحقيق المصلحة الجمعية، وهو ما بدا في العديد من الخطوات السابقة، وأبرزها الموقف المصري الداعم للشركاء القاريين، خلال قمة المناخ الأخيرة، وتبنى مطالبهم، في إطار جدال محتدم منذ أكثر من عقدين، حول حقوقهم التنموية، في استثمار آخر صريح لثقلها الدولي، في ظل تقاعس الدول المتقدمة عن الالتزام بمسؤوليتها حول تخفيض الانبعاثات.
بينما يبقى المسار الآخر، والذي لا يقل أهمية في هذا الإطار قائما على تصحيح الصورة المغلوطة التي تسعى بعض الدول إلى تصديرها، حول معارضة الدولة المصرية للتنمية في محيطها الإقليمي، وذلك حتى يمكنهم "شرعنة" أية انتهاكات قد يرتكبونها تجاه حقوق الدول الأخرى، تحت شعار "الحق في التنمية"، حيث أبدت مصر استعدادها، عملياً، للمساهمة بخبراتها وشركاتها في بناء المشروعات التي يمكنها تحقيق التنمية في دول الجوار الإفريقي، شريطة عدم انتهاك حقوق الأخرين، وهو ما يمثل انسجاما مع مفهوم "التنمية المستدامة" والمرتبط أساسا بتحقيق الاستقرار، على كافة الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية والمناخية وغيرها.
وهنا يمكننا القول بأن "دبلوماسية الاستثمار" بحسب الرؤية المصرية، تحمل وجها يبدو جديدا نسبيا، عبر ضخ "الخبرات" التي من شأنها تحقيق التنمية الجمعية في مناطقها الجغرافية، بينما تقدم في الوجه نفسه دحضاً عمليا لأكاذيب يروجها البعض حول محاولات الاستئثار بالتنمية، ومناهضة العملية التنموية في المحيط الإقليمي، في حين أنها تعكس كذلك مساعي مصر نحو تشجيع التنمية في دول الجوار باعتبارها عاملا داعما لتحقيق "التنمية المستدامة"، والتي تخدم بطبيعة الحال مصلحة الداخل المصري.