من أى نقطة يجب أن يبدأ النظر للسلطة التشريعية؟ لا تبدو الصورة واضحة فى وعى كثير من أهل السياسة، ولا تزال أسئلة الشكل أكثر حضورًا وفعلاً فى الرؤى من أمور المضمون. لم تُنضج السنوات والتجارب تصوّرًا عمليًّا مُغايرًا لما استقر عليه الاعتقاد عن طبيعة البرلمان ومهامّه، وبينما يتحدث الجميع عن أدوار الرقابة والتشريع؛ تقود الأفكار والممارسات فى غالبها لنطاقات أقرب إلى عمل المحلّيات، وأولويات منحازة للمُحاصصة وترتيب المقاعد تحت القُبّة. لا يمكن إنكار أن جانبًا من فاعلية العمل النيابى يرتبط بخريطة التمثيل، وحجم التنوّع، وإرساء بيئة صديقة للأحزاب؛ إنما ليس هذا كل ما فى الأمر، ولا حصيلة خبراتنا الطويلة عصمتنا من آثار تغليب المظهر على الجوهر. من حق الجميع البحث عن موطئ قدم؛ لكن عليهم العمل بالتوازى ليكون انخراطًا مُثمرًا لصالح التجربة السياسية العريضة، ولفائدة كل تيار فى مجاله الحيوى.
عاد البرلمان إلى منصّة الحوار الوطنى، بعد جولة سابقة تناولت «النظام الانتخابى» خلال الأسبوع الأول. الظهور الجديد شمل «عدد الأعضاء والتفرّغ للعضوية»، وإجمالاً ساد التوافق بين الجميع تقريبًا على ضرورة زيادة مقاعد المجلسين، مشفوعًا بإشارات مُتنوّعة عن الحاجة لتعزيز التمثيل وضبط المعادلة بين هيكل البرلمان ونموّ السكان، وقاوم فريق غير قليل فكرة إلزام النواب بالتفرّغ لمهامّهم، ورهنها آخرون برفع المزايا المالية بما يُلبّى حاجاتهم ويُراعى تراجع مواردهم حال التخلّى عن أعمالهم الأصلية. لا غضاضة فى طرح تلك الأمور وغيرها، وغرض «الحوار» أن يضع كل العناوين على طاولة البحث والتدقيق؛ إنما يظل السياق محكومًا بالمنطق، وكل اقتراح يجب أن يحمل معه أسبابًا وجيهة ومُقنعة.
فى مسألة العدد لا يخلو الأمر من تبسيط. الكمّ ليس غايةً فى ذاته، وكل دفعٍ له نحو الأمام لن ينتج بالضرورة صعودًا فى الكيف، ومن هنا يتقدّم سؤال مُهم عن: الحاجة والأثر. قبل ربع القرن تقريبًا كان تعداد المصريين 71 مليونًا وناخبيهم 31 مليونًا ومجموع مجلسى الشعب والشورى 724 نائبًا، بمتوسط تمثيل ووزن نسبى للمقعد 98 ألفًا من السكان وأقل من 42 ألف ناخب. تلك المُعادلة السخية للغاية فى تضييق الدوائر ورفع نسبة النواب إلى المواطنين لم تُثمر أداء فارقًا فى برلمان 2000 ولا بعده، ومن جهة يُسر العبور إليه كانت الهيمنة للحزب الوطنى، وإن ردّ البعض ذلك لطبيعة النظام الفردى، فإن مجلس 2011 كان على العكس، وفرضت قوى السياسة صيغة الانتخاب التى أرادتها، وفى الأخير سجّلت حضورًا هامشيًّا مقابل هيمنة الإخوان، أما فى الفاعلية فكان برلمانًا هشًّا بغرفتيه، ولم يُنتج فيما أُتيح له من وقت وانفتاح أى أداء لافت، لا فى الرقابة ولا التشريع.. خلاصة التجارب، وإن بدت صادمةً للبعض، أن الشكل لا يُعوّض عن المضمون، وإرساء هياكل مُرضية للسياسيين، لا يمكن إطلاقًا أن يكون بديلاً عن بناء أحزابهم والاستثمار فى كوادرهم وعلاقتهم بالشارع.
زاد السكان والناخبون نحو 30 مليونًا عمّا كانوا عليه قبل 5 مجالس، وقفز المجلسان 144 مقعدًا تُقارب 20 %. صحيح أن نموّ الهيئة الناخبة تفوّق على المقاعد المُضافة؛ لكن لا يمكن القول حتى اللحظة إن عدد الأعضاء قليل، أو يخل بالتمثيل العادل ويُرهق النواب بين دوائر شاسعة وجمهور حاشد؛ لا سيّما أن أدوارهم رقابية تشريعية حصرًا، وسعى دستور 2014 إلى علاج الصيغة المُشوّهة لـ»نائب الخدمات»، وفى الأحوال الطبيعية سيضطلع بهذا الدور نحو 54 ألف عضو محلّيات، ونحن على مقربة من إرسائها كواحدة من غايات الحوار الوطنى. وفق تلك الرؤية فإن مهمّة النائب يجب أن تتركّز على إنفاذ إرادة ناخبيه فى الاشتباك مع السلطة التنفيذية، وتفعيل الأدوات البرلمانية، وتركيز الأفكار والطموحات فى اقتراحات وقوانين ناضجة، وهو دور يتطلّب أن يكون رأس ارتكاز لندوةٍ سياسية مفتوحة مع الناس، عبر اللقاءات والمُنتديات وجلسات الحوارية واستطلاعات الرأى، وللأسف كلها أدوار، كانت وما تزال، غائبة عن أغلب النواب فى كلّ مجالسنا.
مُتوسط تمثيل كل عضو بالمجلسين حاليًا 120 ألفًا من السكان و72 ألفًا من الناخبين. ربما يكون وزن المقعد أكبر من المعتاد سابقًا؛ لكنه لا يُجافى النطاقات الطبيعية قياسًا لتجارب أسبق وأكثر رسوخًا. فى ألمانيا بين 83 و115 ألفًا، وفرنسا بين 53 و74، والصين فى حدود نصف المليون، أما الولايات المتحدة فبين 460 و620 ألفًا. لم يمنع ذلك برلمانات الغرب أو الشرق أن تكون ديناميكية، فعّالة ومثمرة، وفق صلاحياتها وما يُراد منها، وبالتأكيد لن يكون مُقنعًا الحديث عن أن نسبة التمثيل فى الحالة المصرية هى ما يُعطّل النواب وتيّاراتهم عن إنجاز أدوار الحضور والتأثير شعبيًّا. الوضع أعقد من اختزاله فى حِسبةٍ رياضية ربما تُريح ضمائر السياسيين؛ لكنها لن تشطب عنهم شبهة التقصير والكسل.
لعلّ الساعين إلى زحزحة المقاعد حتى تُفسح المكان لوافدين جُدد، يرون أن رفع الأعداد يزيد فرص الأحزاب وكوادرها فى التمثيل. حتى هذا التصوُّر البسيط طُموح مشروع لا يُمكن مصادرته؛ لو كان مُستندًا إلى منطقٍ يضمن له الصمود؛ لكن الحقيقة أن معضلة الغياب تتأسَّس على أسبابٍ غير عدد المقاعد المُتاحة فى سباق سياسى، يحلو للبعض اختزاله إلى مستوى «لعبة الكراسى الموسيقية»، ويتصوّرون أن عدد اللاعبين ثابت بالضرورة وكل مقعد زائد سيُضيف رابحًا جديدًا. قد يتّصل الوضع بحالة المجال العام، أو البيئة القانونية ونظام الانتخاب، أو هشاشة الأحزاب وعجزها عن الانخراط فى الصراع بشروطه، وتتسع القائمة حسب رغبة كل فريق ومدى شجاعته فى تحمل المسؤولية أو إنكارها؛ لكن فى الأخير تُعبّر خريطة التمثيل عن توازنات مُتصلة بقوى السياسة والشارع، لا بفضاء القُبّة ومقاعدها، ومهما زِيدت الأعداد لن تتغيّر المُعادلة؛ إنما سيزيد الحاضرون مقاعدهم بقدر أوزانهم، ويظل الغائبون على حالهم خارج البرواز. أما الحديث عن أثر الفاعلية؛ فإن تفعيل القائم أولى من إثقال كاهله بمزيد من نقاط الضعف.
تُواجه مصر أزمة مع الزيادة السكانية الطائشة، ولم تُفلح برامج العقود السابقة فى ضبط المُعادلة وتجنيبنا مخاطر انفجار قنبلة البشر. الخوف أن نستعير الحالة إلى المجال السياسى، مدفوعين بشهوة الحلول السهلة. فالبحث عن مُلاحقة دفاتر المواليد وترجمتها فى ساحات التشريع قد يُفضى إلى «انفلات نيابى»، نضطر مُستقبلاً لدفع فواتير أضخم لعلاجه. زاد أعضاء مجلس الشعب أو النواب 3 مرات آخر عقدين، وتُطرح الآن زيادة رابعة يتدرّج بها البعض من 32 لـ90 مقعدًا، ويزيدون باقتراح 15% إضافية لهيكل الشيوخ، رغم أنه هيئة استشارية تُعاون الغرفة الأولى دون صلاحيات فعلية، ولا تُترجم مقاعده أوزانًا نسبية أو خرائط تمثيل. إلى ذلك، فإن اضطراد الأعداد يُهدّد الكفاءة، فمقابل التوسُّع تضيق حظوظ النواب جميعًا فى المشاركة والنقاش وممارسة أدوارهم فى مناخ الزحام، فضلاً عن الأعباء المالية والتنظيمية على المُؤسّسة: إمّا يخصم من مُخصّصات العمل لخدمة الأعضاء، أو يُرهق الموازنة العامة بتكاليف باهظة على حساب أمور أخرى قد تكون أكثر أهمية.
أمّا الحديث عن تفرُّغ الأعضاء؛ فإن طرح الأمر للتداول يبدو غريبًا. اتّفق أمناء الحوار وشركاؤه على أن عملهم محكوم تحت سقف الدستور، وهو يُنظّم المسألة صراحةً فى المادة 103، يُلزم النائب بالتفرّغ لمهام العضوية مع حفظ الوظيفة، ولا شكّ فى أن العمل النيابى ثقيل إلى درجة لا تحتمل منافسته بأدوار أخرى، والتفرّغ يُغلق أبواب الشُّبهة وتضارب المصالح قصدًا، أو بالمحاباة انطلاقًا من أثر المراكز المعنوية وفعلها فى الدوائر المُحيطة بالنواب، ولا وجاهة للقول بخسارة الكفاءات فى بلد كبير وثرىٍّ فى موارده البشرية. وجه الاستغراب أن الرجوع عن القيد القائم يتطلّب تعديلاً دستوريًّا خارج صلاحية الحوار وغاياته، ومجرّد مناقشته تُلمّح لأن قطاعًا من نُخب السياسة الذين يُفترض أن ينضبط أداؤهم بالدستور ويدافعوا عنه، يبحثون عن مسارات لتعطيل نصوصه. فيما تتّسع الدهشة مع طرح بعض المشاركين تصوّرات بدت كأنها شروط، تضع زيادة الرواتب مقابل الوفاء بالتزام النواب الثابت بنص قاطع لا يقبل التأويل، وسابق على الترشُّح واكتساب مراكزهم المعنوية.
ينطوى الطرح السالف على تناقض قِيَمى قد لا يُمرّره الشارع، انطلاقًا من أنه قد يبدو بحثًا عن منفعة، ولا يُراعى سياقًا استثنائيًّا تعيشه الدولة، وتتكبّد فيه أعباء مُضاعفة بفعل الأزمات الخارجية والضغوط الداخلية، ومع تقشُّف الحكومة فى كثير من أبواب الإنفاق، قد ينتظر الناخب من مُمثّليه إحساسًا بتلك الحالة؛ ولو كان صعبًا النزول عن بعض مُخصّصاتهم، فأضعف الإيمان ألّا تُثار زيادتها فى تلك الأجواء. المنطق أن الحوار يعمل للمستقبل، ويُرسى رؤاه على قاعدة الظروف الطبيعية لا الاستثنائية، ولا خلاف فى حاجة النواب لبيئة مُحفّزة، وحقّهم على الدولة والمالية العامة؛ لكن السياسة بنت المُواءمة وفنّ المُمكن، والسياسيّون أول من يتعيّن عليهم التضامن مع الجمهور، وتأجيل خلافات اليوم أملاً فى توافقات الغد.
الأوقع أن تعمل القوى السياسية على تطوير البيئة الحزبية، وتحسين حالة المجال العام، ووَصل نفسها بالشارع أكثر؛ بدلاً من البحث عن مقاعد إضافية قد تتعطّل أيضًا لو ظلّت الممارسات على حالها. وربّما يُفيد النوابَ السعى لرفع مُخصّصات العمل البرلمانى وتعزيز كفاءة الهيئات المعاونة والأمانات الفنية ودوائر المعلومات والاستشارات، أكثر من المُطالبة بزيادة الرواتب والمزايا. هناك مسارات أيسر وأنجع فى تنشيط السلطة التشريعية وخدمة أعضائها؛ لكن تظل إثارة كل العناوين على طاولة الحوار الوطنى سلوكًا إيجابيًّا، من زاوية تقاسم المسؤولية وشراكة الحلول، وتقديم براهين على فاعلية المنصّة وسعيها الجاد للتوافق، وإيمان المؤسَّسات بهذا الدور وقبول نواتجه؛ لا سيما أن كثيرًا من الأُطروحات قد لا تكون على هوى الحكومة أو ضمن أولويّاتها، ما يُؤشّر لرغبة إصلاحية حقيقية حتى لو كانت مُكلِّفة. يتّفق الجميع على أهمية الحوار، وقفز الاختلافات البسيطة، وجَبر الرؤى إلى أقرب التقاء موضوعى، وفى القلب لا خلاف على أهمية تطوير الحزبيّة وتحسين السياسة وكفالة أفضل فُرص التمثيل للجميع، وفى سبيل ذلك تتعاظم أهمية كل الآراء دون فرز أو استبعاد، وحتى ما يُمكن تسجيله من ملاحظات يُؤكّد أننا إزاء حالة غير تقليدية، تتصارع فيها الأفكار لا أصحابها، وتُطرح الرؤى خالصةً من الرفض الاستباقى أو التنزيه المجّانى.. يبتغى السياسيون المصلحة العامة، ولا مانع من مراعاة منفعة أحزابهم؛ المهم ألا يغيب المنطق، أو نتورّط فى إجابات سهلةٍ عن أسئلة من خارج منهج الأولويات، وربما لا تنتمى من أى وجهٍ لامتحان اللحظة والتزاماتها الواجبة.