في الوقت الذي تتحرك فيه العديد من الدول العربية، وفي القلب منها مصر، نحو توسيع دوائر علاقاتها الدولية، لتتجاوز الجغرافيا الإقليمية الضيقة، نحو آفاق دولية أوسع، تبدو الحالة العربية الجمعية في نفس الاتجاه، في إطار التحول من التكامل الإقليمي، والقائم على التعاون والتنسيق بين الدول الواقعة في نطاق جغرافي معين، إلى "التكامل بين الأقاليم"، وهو ما وصدته في مقال سابق، في إطار الرؤية "الأفروعربية"، والتي تقودها الدولة المصرية، وغيرها من الدول الأخرى التي تجمع بين الهوية العربية والامتداد الإفريقي، خاصة بعد اندلاع الصراع في السودان، وكذلك لمواكبة الأزمات المستحدثة، التي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك عجز القوى الدولية الكبرى عن مجابهتها بمفردها، وكذلك عدم جدوى التكامل بين دول منطقة بعينها، في ضوء التداعيات الكبيرة المترتبة عليها، وبالتالي فأصبحت الحاجة ملحة لتوسيع دائرة التكامل، من الإطار الفردي (بين الدول)، إلى صيغة أكثر جمعية عبر الأقاليم.
ولعل التنسيق العربي الإفريقي، سواء فيما يتعلق بالأوضاع في السودان، أو مجابهة الأزمات المستحدثة، يمثل نموذجا لـ"التكامل بين الأقاليم" المتقاطعة جغرافيًا، عبر الدول العربية ذات العمق الإفريقي، أو من خلال الكيانات الجمعية، كجامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي، وهو ما يعكس حرصًا متناميًا على تحقيق المصالح المشتركة، ناهيك عن تعزيز الدور لتلك المناطق التي عانت تهميشًا دوليًا لعقود طويلة من الزمن، من قبل القوى الكبرى، مما أدى إلى تجريفها وتقويض أي فرصة لدولها لتحقيق التنمية، لتستأثر حفنة صغيرة من شعوب العالم بالحق في الرفاهية، في انعكاس صريح لحالة الخلل التي عاشها المجتمع الدولي، في إطار صور متعددة من الهيمنة، منذ الحقبة الاستعمارية، مرورا بالحروب العالمية، وحتى الحرب الباردة، وانتهاءً بزمن الأحادية المطلقة، التي فرضت فيها الولايات المتحدة قبضتها على العالم.
نهج "التكامل بين الأقاليم"، الذي تتبناه الدبلوماسية العربية، في إطار المناطق المتقاطعة معها جغرافيًا، لا يقتصر على الامتداد نحو إفريقيا، وإنما حمل بعدًا شرق أوسطياً، عبر التقارب مع القوى غير العربية في المنطقة، وآخر آسيويا، ينطلق هو الآخر من القوى العربية ذات العمق الآسيوى، على غرار المملكة العربية السعودية، ودول الخليج، وهو ما ساهم في تعزيز العلاقات بصورة كبيرة مع القوى الرئيسية في القارة "الصفراء"، كالصين والتي عقدت قمة مع الجامعة العربية بالسعوديه في ديسمبر الماضي، واليابان والتي باتت تسعى لمزاحمة النفوذ الصيني في المنطقة العربية، بينما تداخلت دول الجوار الآسيوى في المشهد، على غرار روسيا، والتي تسعى لاستقطاب العرب نحوها في صراعها المتنامي مع الغرب.
وهنا تتحول دائرة الانفتاح تدريجيا من المناطق المتاخمة للمنطقة العربية (إفريقيا وآسيا)، نحو مناطق أخرى، على غرار أوروبا، وهو ما يبدو في التداخل الروسي، والذي يدفع لا محالة في توسيع الدائرة، في ظل مساعي دول أوروبا الغربية المناوئة لموسكو نحو الدخول على خط المنافسة الإقليمية لكسب ود الدول العربية والفوز بتأييدها خلال الصراع الحالى، في ظل حقيقة واضحة تقوم في الأساس على أن الاعتماد الأوروبي على قوى واحدة مهيمنة لشرعنة مواقفها لم يعد مجديا، وأن الميزان الدولي بات أكثر اعتدالا بصورة نسبية، في ظل الأهمية التي باتت تحظى بها الدول "المهمشة"، والتي طالما وصفها العالم بـ"النامية".
ولكن الرؤية العربية نحو "التكامل بين الأقاليم"، امتدت إلى مناطق أبعد نسبيًا، وهو ما يبدو في التقارب العربي مع دول جزر الباسيفيك، وهو ما يبدو في الاجتماع الوزارى بينها وبين جامعة الدول العربية الذي عقد بالمملكة العربية السعودية يوم الاثنين الماضي، وهو ما يعكس قدرة عربية غير مسبوقة على الحشد الدولي، في مرحلة تبدو حساسة للغاية يمر بها العالم، وإدراكًا عربيا، فرديا وجمعياً، بأهمية العمل الذي يتجاوز الجماعية التقليدية، عبر استكشاف دوائر "ميتة" في المحيط العالمي الواسع.
القدرة العربية على الحشد، يصل بالنفع على خدمة القضايا طويلة الأمد التي عاشتها المنطقة العربية دون حلول منصفة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتي تمثل القضية المركزية في المنطقة العربية، جراء اختلاف كبير في مفهوم الشرعية الدولية، والذي كان حكرا على عدد محدود من الدول تدور في فلك قوى واحدة مهيمنة، ليصبح أكثر مرونة، في ظل تعاظم الدور الذي يمكن أن تقوم به دول صغيرة نسبيا في ترجيح كفة على الأخرى، وهو ما بدا في التنافس الروسي الغربي على استقطاب المؤيدين في ظل الصراع الراهن على الأراضي الأوكرانية.
وهنا يمكننا القول بأن الدبلوماسية العربية، في صورتها الجمعية، باتت لديها القدرة الكبيرة على خدمة قضاياها عبر التحول نحو التوغل جغرافيا إلى مناطق جديدة، بعيدا عن دوائرها التقليدية، بينما يعكس في الوقت نفسه الأهمية الكبيرة التي باتت تحظى بها في الميزان الدولي، لتصبح لاعبا دوليًا مؤثرا، مما يفتح الباب أمامها نحو المزيد من المناورة السياسية في مواجهة ما يطرأ من مستجدات لخدمة المصالح الفردية والجماعية للمنطقة.