كانت القاهرة فى كل محطّاتها عنوانًا للحياة، عبَر الزمن على خريطتها مُترامية الأطراف تاركًا شيئًا من روحه فى كل ناحية، حتى أصبحت قيمة أكبر من مدينة وأهم من عاصمة وأوسع من حدود الجغرافيا والإدارة، وظلّت نطاقًا عصيًّا على التعريف فى الممارسة اليومية. من الجيزة غربًا إلى عين شمس شرقًا، ومن حلوان جنوبًا إلى شبرا الخيمة شمالاً: 3 محافظات تقع جميعًا فى عُهدة الحاضرة المُهيمنة ويختزلها الضيوف وأغلبية من أبناء البلد فى اسم «القاهرة»، فى أى ركنٍ منها لن تُرهق فى الوصول إلى قبس من التاريخ: علامات من مصر القديمة، ومحطّات فى زيارة المسيح وأُمّه العذراء، وخلاصة جهد الفاطميين والمماليك، وعمارة وتواقيع محمد على وأسرته، هى روح أكثر من كونها جسدًا، صانت الموت وحفظت ذكرى العابرين عليها، بقدر إخلاصها وتفانيها فى محبّة الحياة.
لا تنكر القاهرة مُحبّيها ولا تخون ودَّهم، ولا يُعقل أن تلفظ من استقرّ مثواهم فى تُرابها، إنها متحفٌ مفتوح من الأضرحة ومراقد النجباء فى كل العصور، ما يجعلها مدينةً صديقةً للموت بجدارة، لكنها فى الوقت نفسه تُحبّ الحياة وعليها واجبات تجاه الأحياء، يصعب أن تبقى على حال الاختناق الراهنة بالسكّان والزائرين، وهى فى حاجة إلى أن تتنفّس، لتظل صالحةً للعيش وقادرةً على خدمة أكثر من عشرين مليونًا يتسابقون فى أوردتها كلّ صباح، لهذا لا تتوقّف أعمال التطوير ولا يصح أن يكون ذلك بين الخيارات أصلاً، على أن تُصاغ البرامج فى الإطار الضامن للتاريخ والحاضر معًا، قبل أسابيع أُثيرت نقاشات عن الأمر، كان مدخلها بعض المشروعات الجارية شرقًا، والمأخذ فيها ما أُشيع عن العمل فى نطاق جبّانات الشافعى والسيدة نفيسة، بما لها من رمزية عقائدية وما تحمله بعض أركانها من قيمة تاريخية، فُتح الملف وأدلى فيه كثيرون بما يطيب لهم، فاختلط الصدق بالاختلاق، وغابت الحقائق أحيانًا، وكان ضروريًّا أن تضع الدولة نقطةً فارقة فى آخر السطر.
ظلّ الأمر مُعلّقًا إلى أن حسمه الرئيس أخيرًا، بات ذلك مُعتادًا، أن تُحل الأمور من خلال رأس الدولة مُباشرة، وهو مسلكٌ يُنبئ عن مواكبةٍ رئاسية دائمة، واطّلاع حثيث على حركة الرأى العام، ورغبة حقيقية فى إقامة الأمور على أرضية راسخة من الجدية والمُكاشفة، الغريب أن الحكومة تكاد ترخى زمام المُبادرة لآخره فى كل الامتحانات تقريبًا، والموضوعات المُشتعلة فى نطاق اختصاصها لا ينقشع دخانُها إلا عندما يتدخّل الرئيس، وهو موقف محمود من القيادة السياسية، إلا أنه من غير الطبيعى أن يبقى التنفيذيّون المعنيّون بالملفّات فى موقع ردّ الفعل، مع ما ينشأ عن ذلك من ضبابيةٍ وتعقُّد للخيوط ورواجٍ للشائعات أحيانًا، قبل أن يأتى طوق النجاة من أعلى المستويات، لعلاج أخطاء كانت يمكن تجنُّبها منذ البداية، أو كبح انفلاتها، أو ترشيد انعكاساتها المُجتمعية، حال أحسن الوزراء والمحافظون ومساعدوهم إدارة الأزمة، والاضطلاع بالتزاماتهم، وتحمُّل النتائج بشجاعة ومسؤولية.
على مدى أسابيع من حضور موضوع مقابر شرق القاهرة عبر مواقع التواصل الاجتماعى، كان الملمح الإيجابى فى اهتمام عوام المُستخدمين أن هناك وعيًا جادًّا ومُتناميًا بمسائل الهويّة والتاريخ، ونزوعًا مُخلصًا لصيانة إرث مصر وعناصر ثرائها. ربما ينطوى الموقف على تناقضٍ صريح مع خطابات مُغايرة تحتضنها المنصّات نفسها، ويطلّ فيها فريق من المُنسلخين عن انتمائهم للحضارة المصرية أو الساعين للالتحاق بدوائر أخرى، ذات امتدادات عقائدية أو عرقية غريبة عن نسيجنا، إلّا أن الحالة الأخيرة إذا وُضعت بجانب موجة الفخر الحاشدة خلال حفلى موكب المومياوات الملكية بالقاهرة وافتتاح طريق الكباش فى الأقصر قبل عامين تقريبًا، وإلى الهبّة الحامية ضد شبكة «نتفليكس» مع عرض شريطها التلفيقى عن الملكة كليوباترا الشهر الماضى، يُمكن القول إننا إزاء نزعة وطنية تتشكّل وتحفر مسارها فى نفوس ملايين المصريين، قد تهتزّ أو تخفت أحيانًا، لكنها تسمح بالالتقاء على أمورٍ عميقة وكامنة فى روح الشخصية المصرية. رغم أىّ انتقاد أو مآخذ على المؤسَّسات والأفراد، لا يُمكن تجاهل أن تلك السبيكة الجامعة من عناصر الانتماء والقيم وإجلال جذورنا الضاربة فى عُمق الأرض، واحدة من مكوّنات القوة التى يمكن البناء عليها لناحية إثراء المجتمع وتعزيز تجانسه.
يُجِلّ المصريون الموت، ويحتفظون له بقداسةٍ راسخة، صحيح أن تلك الرؤية مُتجذّرة فى الاعتقاد الإسلامى والمسيحى على حدٍّ سواء، لكن ما يحضر ضمن منظومة الطقوس المصرية يتجاوز فكرة الدين إلى الامتداد التاريخى، يُمكن الجزم بأن كثيرًا من مفردات العالم الآخر سرت فى شرايين الاجتماع، لتنتقل من ماضى الأجداد إلى حاضر الأحفاد ويوميّاتهم، يتجلّى ذلك واضحًا فى إعلاء قيمة المقابر، والاهتمام بتخطيطها وعمارتها وزخارفها، وأن تصبح مزارًا له قيمة جمالية ومعرفية فى ذاته، وذلك على نحو مُفارق لما تُرسّخه تصوُّرات الأصولية الإسلامية أو غيرها عن الموت ومراسمه وجغرافيّته، انتقلت المدافن من غرب النيل إلى شرقه، لكن رمزيّتها ظلّت على حالها، لذا ليس ثمّة فارق بين الاهتمام الراهن بما يجرى فى «السيدة والإمام»، وما جرى مع تشييع مُومياوات أكثر من 20 ملكًا من حضن النيل عند التحرير إلى الناحية المُقابلة لمقابر الشرق فى متحف الحضارة، كأن المصريين يُعيدون إنتاج الطقوسيّة القديمة، ويحتفون بالقيمة المُتحقِّقة فى عُمران الموت.
استخلاص النزعة الحضارية من زخم المواقف الأخيرة، لا ينفى أن الملف كان هدفًا لسيل من التزييف والاختلاقات، لا سيّما أنه حتى اللحظة لا حديث جديًّا عن إزالة أى ضريح ذى قيمة تاريخية أو أثرية. نشطت منصّات الإخوان وصفحاتهم تحت عناوين عاطفية، وربما دخل على الخط آخرون يخلطون السياسى بالثقافى والدينى، كما اعتدنا طول العقد الأخير من حَرْف القضايا والموضوعات عن نطاقاتها الأصيلة، لصالح التلوين المُغرض والتوظيف المُوجّه، تلك الحقيقة الواضحة بالرصد المباشر لا تقدح فى مواقف شباب وشيوخ وأثريّين، اشتبكوا مع الحالة بالتتبُّع والنقد أو الإيضاح، ومنهم روابط ومجموعات مُستقلة من المُهتمّين بالتاريخ تكفّلوا مُتطوّعين بالرد وتفنيد كثير من الشائعات. فى المقابل تحمل المواقف العملية ردودًا أكثر حسمًا، إذ لا يُعقل أن منظومةً تضع تطوير المواقع والمزارات التراثية ضمن أولوياتها، ودشّنت أو طوّرت عشرات المتاحف فى العاصمة وعلى امتداد مصر، وتُعيد إحياء مسار «رحلة العائلة المُقدّسة» فى ثمانى مُحافظات، قد تتورّط فى إهدار أيّة قيمة ثقافية أخرى، متى توفّر عليها دليل، قليلٌ من التوقُّف، للتفكير وفحص الأمور عن قُرب، قد يكون كاشفًا وفعًالاً أكثر من أيّة أحاديث تهدئة أو تسخين.
دخول الرئيس على خطّ الأزمة أعاد بناء الصورة فى الحيِّز العقلانى، إنّنا من ناحيةٍ نحتاج إلى التطوير بكل الصور والوسائل المُتاحة، ولا نُفرّط بالوقت نفسه فى قليلٍ أو كثير من إرثنا العريق، والفيصل المُنظّم لتوازن المسارين يحكمه العلم والمنطق، لا استسهال الخطط ولا الدعائيّة الفجّة والنفخ فى النار، حمل الموقف الرئاسى توجيهًا بتشكيل لجنة تجمع التنفيذيين بالخبراء والاختصاصيين، وتلتزم بالوصول إلى مُخرجات واضحة، تُراعى القيمة وتستجيب للضرورة وتقترح البدائل، فى غضون ثلاثة أسابيع فقط، على أن تُعرض للرأى العام مباشرة. الرسالة أنه لا جوانب خفيّة للقصّة، ولا غضاضة فى أن يكون الشارع رقيبًا ومُرشدًا للدولة، ثمّ شريكًا فى تقدير الموقف على بيّنةٍ، ومن دون حاجة للإغراق فى سرديّاتٍ لا أساس لها، إنها خطوة مُتقدّمة صوبَ المُكاشفة وخنق المخاوف فى منبعها، وأن تأتى من قمّة هرم الإدارة، فالمعنى أنها مشمولة بالنفاذ، وغايتها المصلحة التى لا فارق بين أن تُصيبها الحكومة، أو يُحرزها مواطنون عاديون.
شملت رؤية القيادة إنشاء مقبرة جديدة للخالدين من رموز مصر والفاعلين فى تاريخ نهضتها، تلك عودة أخرى إلى فلسفة الموت فى الدولة القديمة وجبّاناتها الملكية، لكن بينما كانت مشروعية الانتماء إلى الوادى الذهبى قديمًا تتحقّق بالدماء الملكية والانتساب لمجمع الآلهة، فإن محورها فى الرؤية الجديدة مدى الوصل بالطين والاندماج مع الدم الجارى فى شرايين الحضارة.
الفكرة وجيهة ونفّذتها فرنسا «الأحدث حضاريًّا من مصر» قبل ثورتها الشهيرة أواخر القرن الثامن عشر، وتحضر فى دول أخرى عديدة منها بلجيكا، وفضلاً عن رمزيّة التكريم والاعتراف بالفضل لمن سيُوضعون فى تلك المساحة اللامعة، فإنها ستهدى مصر مزارًا جديدًا ذا قيمة ثقافية وحضارية مُهمّة، لا سيّما أن عظماءنا يتشابكون مع تاريخ المنطقة والعالم فى أمور السياسة والعلم والاعتقاد، وفيهم من لعبوا أدوارًا مُؤثّرة باتت ضمن مُكوّنات الهوية والثقافة لدى مجتمعات أخرى، وهو مدخل جاذبٌ بقدر جاذبيّة المعالم التراثية القديمة، رغم أننا طليعة الشعوب التى قدّست الموت واحتفت به وتفنّنت فى طقوسه، عانى موتانا من إهمالٍ طويل، وربما يكون فى المقبرة الجديدة شىء من الاعتذار وردّ الاعتبار.
تعاملت المُؤسَّسات مع الموقف منذ بدايته بقدر عالٍ من الثبات، قد يحمده فريق أو يُفسّره آخرون بغياب الرؤية أو انحسار الردود المُقنعة، المهمّ أن الصمت الرسمى مُقابل صخب مواقع التواصل وجد من فسّره فى غير صالح الحكومة، ما أحدثه الموقف الرئاسى الأخير أنه أعاد الحالة إلى نصابها الصحيح: لدى الدولة رؤيةٌ قد تغيب عن الشارع، وقد يختلف معها فى كثيرٍ أو قليل، إنما ليست ثابتًا لا يقبل النقد أو إعادة النظر، ولأنها تنبنى على صفاء النيّة واعتبارات المنفعة العامة، فلا مانع من إعادة إخضاعها للدرس بشراكةٍ مُوسّعة مع أهل الاختصاص، على أن تعود الحصيلة إلى الرأى العام بوصفه سُلطة الملكيّة وشريك القرار فى تصريف الأحوال، ربّما تأخّر الردُّ لأن الأجهزة التنفيذية تثق فى خططها، أو تضع احتياجات الإنجاز فوق اعتبارات الإفصاح، لكن القيادة تزن الأمور فى نطاق الممارسة السياسية القويمة، وهى إن كانت معنيّة بموضوعات التنمية لا تتجاهل أهمية التوافق، وأن تكون برامج التحديث محلَّ قبولٍ عريض من مكوّنات المشهد الوطنى، حتى تتوفّر لها الحاضنة الشعبية الضامنة لاستدامتها، إن أى عمل لصالح الناس، ينبغى أن يكون مقبولاً منهم عن قناعة، وتلك حصانة ضرورية لم تغب عن رفع الملف عند مقام الرئاسة.
أهم ما فى الرسالة الرئاسية، أن الدولة فى أعلى مستوياتها غير مُنفصلة عن نبض الشارع، ولا عن منطق التاريخ، إذا كُنّا نبتغى إلى الحياة سبيلاً، فإننا لا نقفز على قداسة الموت، ونعرف أن جزءًا ناصعًا من هويّة مصر وحضارتها يستقر فى الجبّانات والأضرحة وتُراث الآباء من الرموز والفاعلين التاريخيين. ما تحتاجه القاهرة أن تتصالح على الحياة بدرجة أفضل ممّا عليه الحال، وأن تكون صديقة لإرث الموت وقيمته المعنوية والمادية، على الوجه الذى يضمن بقاءه ولا يُهين مقامه، وربما لا يختلف أحدٌ على أن مقابرنا تستحق نظرة أعمق، وعملاً أكثر شمولاً، إذ ليس الوجود فقط ما يتعيّن إيلاؤه الاهتمام، إنما أن يكون راسخًا وجميلاً وفاعلاً فى وعى المصريين وإحساسهم بالقيمة والجمال.
مقبرة الخالدين قفزة مهمة باتجاه إعادة الاعتبار لجزء ناصع من ثرواتنا، وبحث التطوير بما يُراعى تاريخية الأماكن ويحترم شواغل الناس، يقع فى صُلب النظرة الناضجة التى تتأسَّس عليها الجمهورية الجديدة. هكذا لخّص الرئيس المشهد فى نظرة، وفكّك تعقيداته بقرار، وأكّد ما كان ثابتًا فى حق القاهرة، من أنها مدينة أليفة وصديق ودود للموت والحياة.