لم يعد تداول المعلومات اختيارًا؛ وليس فى مقدور أحدٍ أو جهة الإبقاء عليه فى نطاق التنظير بدلاً من التطبيق. ما يحدث أن ملايين البشر يتداولون تلالاً من البيانات والأخبار والمعارف يوميًّا، يختلط فيها الحقيقى بالمُتخيَّل، والأصيل بالزائف، ولا سبيل إلى مواكبة التدفُّق الكاسح إلا من بوّابة المنافسة فى الإتاحة لا المجاهدة للمنع. ترى الدولة المشهد وتستوعبه، والواضح من المُتابعة والاستقراء أنه بات لديها يقينٌ عميق بأهمية الاشتباك مع الحالة، على قاعدة «جَلب المنافع ودَرء المفاسد»؛ لذا طُرح الملف على طاولة الحوار الوطنى، ونبدو الآن أقرب من أىّ وقتٍ مضى إلى ولادة القانون المنصوص عليه دستوريًّا. ومع الإقرار بأن الوصول مُتأخّرًين أفضل من البقاء حيث كُنّا، يظلّ ضروريًّا تعبيد المسار وتأمينه؛ حتى لا نتعثّر فى الحُفر التى عمّقتها عُقود الغياب.
الإنسان كائن توّاق للمعرفة وأسير لنزعته الاجتماعية؛ إن لم يجد مُبتغاه فلن يتقاعس عن المبادرة إلى إنتاجه. لا يجب أن يُترك الأمر لقُدرة كل فرد على سدّ حاجته، ثم التمدُّد مستغلا حاجات الآخرين. والدولة من جانبها أميل إلى التحفُّظ وابتلاع المعلومات، وما بين جمهور ينحاز للتواصل وطقوسية الممارسة اليومية، ومُؤسّسات تُفضّل الهضم على الإفشاء؛ تحتاج المساحة المُشتركة بينهما للتعبئة بقنوات اتصال وعلامات إرشاد، من دون إغفال لوظيفة المعرفة الفردية فى خدمة الدولة نفسها، أو تجاهل لأن مصلحة الفرد قد تقتضى إغلاق بعض الأبواب فى وجهه. هذا التوازن يقع فى صُلب المطلوب من قانون حرية تداول المعلومات، ولا يُمكن أن يتحقّق إلا بنزول كل طرف عن بعض ما تعوّد الاستئثار به؛ سواء كان احتكار المعرفة، أو فوضى التعاطى معها دون رقيب أو حسيب.
أن يختلف الناس على معلومات صحيحة وأرقامٍ مُدقّقة، أفضل قطعًا من اضطرارهم إلى اختراعها؛ ثم الاشتباك ومُمارسة رياضة التنازع المُحبّبة إليهم حول وهمٍ لا أساس له. كثافة تقنيات الاتصال ومنصّات العرض خلقت طلبًا مهولاً على البيانات، وأشعلت نهمًا لا ينطفئ فى نفوس المُستخدمين؛ إمَّا أن يتقدّم المعنيّون وأصحاب المصلحة المُباشرة لسدّ الفجوة الحادثة، وإتاحة معروضٍ يكفى الاستهلاك الشَّره، أو أن يبصموا على الارتهان المُرّ لأثر الفوضى والفراغ، ومَن ينفذون من مساحات الالتباس ليصطادوا فى الماء العكر.. لم يعد الأمر واقعًا فى حيِّز الرفاهية، أو يحتمل التلكّؤ فى المدى الزمنى أو صيغة إجرائه عمليًّا، وكل يوم يتأخّر فيه رسمُ مسارٍ واضح لتنظيم إنتاج وتدفُّق واستهلاك المعلومات فى بيئة تقودها اقتصاديات المحتوى، إن سلبًا أو إيجابًا، وبالأصالة أو القرصنة، سيُكلّفنا مزيدًا من أعباء ترميم الشقوق واستعادة الثقة مُستقبلاً، ويصبُّ بطبيعة الحال فى صالح لصوص المعرفة وميليشيات الشائعات.
فى الوجه الظاهر يبدو الموقف بسيطًا، وقابلاً للحسم النهائى عبر صيغة قانونية مُنضبطة ومُتوازنة؛ لكن فى العُمق يخضع التطبيق لتعقيداتٍ تستدعى العمل على النطاقات الاجتماعية والثقافية. نحن إزاء بيئة تربّت طويلاً على قِيَم السَّتر والتكتُّم؛ إمَّا تحت لافتة الطمأنة والخوف من تداعيات المعرفة، أو بمنطق «دارى على شمعتك تقيد»، والخروج من هذا الميراث يتطلّب الوعى بأن إذاعة الحقائق تحميها ولا تُهدّدها، وأن إتاحة المعلومة تحصينٌ لها من الاستهداف، مع تدريب المُتلقّين على التعامل مع المصادر الشرعية وإحسان توظيف ما يستقبلونه منها. ضبطُ المساحة الفاصلة بين منابع المعلومات وجمهورها الطبيعى، يسمح بخلق رقابة حقيقية قادرة على تقويم أداء الطرفين، ويُضفى حالة من الشفافية على السياق العام، ستبدأ من المؤسَّسات الرسمية؛ لكن أثرها سيمتد إلى مكونات المجتمع المدنى والأبنية الأهلية والخاصة. فعندما تترسَّخ حالة المُكاشفة والإفصاح؛ ستترتّب على الجميع التزامات مُكافئة لما يتمتّعون به من حقوق، ما يقود بالممارسة إلى إغلاق أبواب التخفّى والمناورة والتضليل؛ حتى على مستوى الأفراد والكيانات الصغيرة.
ليس مطلوبًا، ولا ميسورًا بالقطع، أن نصل إلى الذروة من المحاولة الأولى. نحن ما نزال نجتهد للتحلُّل من تُراثٍ راسخٍ فى الانغلاق ونُدرة المعلومات، والتجربة كفيلة بإنضاج نفسها مع كشف القصور وعلاج أسبابه. المهم فى المدى القريب أن نصل إلى توافقٍ عاقل فيما يخص حدود الإفصاح وضوابطه، وعناوين الأمن القومى والملفّات الواقعة تحت بند السرّية، وتنظيم الحدود الزمنية وآليات طلب المعلومات والوصول إليها، والضوابط الإجرائية والتزامات مُوظّفى العموم وطالبى البيانات؛ ثم توصيف الجرائم وسَنّ عقوبات مُتدرّجة تكفل الردع فى مستوييه الخاص والعام. قد يُستحَسن فى البداية التحوُّط بأسلم الصياغات وأقلّها سُيولةً وعُرضة للاختراق، على أن تُطرح الحصيلة للمُراجعة والتطوير كُلّما اقتضت الحاجة؛ مع التسليم بفاعلية هذا المسار؛ طالما اتّفقنا على الحاجة لإرساء ركائز ثابتة وصالحة لإنجاز التراكم المطلوب، وليس القفز فى المحيط المفتوح من دون حصانةٍ أو وسائل تأمين.
فى الذاكرة القريبة، لم يكن «الإخوان» مثلاً أُمناء على المعلومات عندما وصلوا إليها، وفى ذلك كثير من المآخذ المُتّصلة بانحراف التوظيف، أو تقديم قراءات مغلوطة، أو التبرّع لخدمة أجندات «فوق وطنية» أحيانًا. البحث عن التقنين ضمانة أولى لجاهزية كل الأطراف على منصّة الحوار الوطنى من أجل الانخراط فى سياقٍ مُنضبط، وانعدام الرغبة فى الاستغلال على وجهٍ غير مُستقيم.. مع توافر حُسن النيّة فإن الحديث لا يدور ضمن نطاق الشكّ فى الباحثين عن المعلومات، أو كيف نخنق طريق الوصول إليها؛ إنّما عن أفضل المسارات الكفيلة بتوجيهها لإثراء الحالة الوطنية، وتعزيز خبرة الأطراف بالمجال العام، وقُدرتهم على قراءة التفاصيل واستخلاص الأفكار وبرامج العمل، بأقل قدرٍ من الجهد وأعلى كفاءة فى الفاعلية والأثر. عندما ينطلق النقاش فى المسألة من تلك الأرضية؛ تسقط بالضرورة كلُّ الافتراضات السوداء، وتخفُت المُزايدة والتربُّص والهواجس المُتبادَلة. إيمان الجميع بأن «حرية تداول المعلومات» مصلحة مُشتركة، أول الشروط العملية لإنجاز الخطوة؛ ثمّ مُواصلة البناء عليها لاحقًا.
قد لا يكون البعض راضين عن فارق توقيت بين الدستور والقانون بلغ تسع سنوات؛ والردّ أن استعجال الخطوة قبل إنضاج تصوُّر حاملٍ لها كان يُمكن أن يقود إلى فوضى مُشرعنة، أو إغلاقٍ يحميه تعسُّف القراءة والتفسير. الرهان على استيعاب العلاقة الجديدة وحدودها الآمنة، أمضى أثرًا من نصوص لا يُعزّزها إيمان بالتحدّيات ورغبةٌ جادة فى ترويضها. خاصّة أن القانون ليس عصا سحرية، ومن غير الوارد أن تبرأ الساحة من أمراضها، أو تتوقّف ماكينات الشائعات، بمجرد إقراره؛ ومن دون التوافق الناعم فى نقاطه الخلافية يمكن أن يتحوّل إلى أداة صراع ومغالبة، قد تُعزّز وصاية المؤسَّسات على معلومات عادية، أو تغلّ يدها عن حماية موضوعات حسّاسة لا تحتمل مشاعيّة العرض. هنا يتعيّن أن تتقدّم الثقافة خطوة على السياسة والتشريع؛ من ناحية وضع السياق الاجتماعى فى الاعتبار، وإعمال فلسفة التدرُّج، والتعاطى مع حقيقة أن الصيغة المثالية لن تنشأ عبر قفزة واحدة، وساحة الحوار الوطنى أول ما يجب أن تترسَّخ فيه تلك النظرة؛ حتى تنتقل الحالة باتّزانها وعقلانيّتها إلى الشارع والنطاقات النوعيّة المعنيّة بالملف.
تداول المعلومات احتياج مُلِحّ للإعلام والأحزاب، وحقٌّ للرأى العام والقواعد الشعبية، وانطلاقًا من أن الملكية الجماعية للأبنية المؤسَّسية وخزائنها أصلٌ ثابت لا طعن فيه؛ فلسنا فى وارد صدامٍ بين الدولة والمجتمع؛ إنما يدور الاختلاف فى تفاوت الرؤى بشأن المصلحة، ودور القانون أن يخلق مساحة تقاطع بين الساحات؛ بما لا يُرضى جانبًا على حساب آخر. من تلك النقطة تبرز الحاجة إلى صَكّ المعايير والتعريفات، ويبقى الالتزام بالمُتّفق فيه أهمّ من التنازع فى المختلف عليه، مع الرهان على أن نُضج المُمارسة سيفرض شروطه على الجميع مُستقبلاً. يمكن أن نبدأ من انفتاحٍ مُطلق ثم يُجبرنا الواقع على الارتداد؛ لكن الأفضل أن نشقّ مسارًا موضوعيًّا ثم نُوسِّع مداه على قدر حاجتنا النامية، بتناسبٍ مع التطوُّرات وما تُمليه من فروض.
المعرفة عدوّ الجهل وأداةُ ردعه؛ لكن خصومتنا تمتدّ إلى أنشطة استهدافٍ مقصودة، وحروب تعتمد سلاح الشك والإغراق بالاختلاقات والأكاذيب. إشراع الباب لتداول المعلومات المُدقَّقة لن يُغلق الجبهات المفتوحة، لكنه قد يرفع مناعة الجبهة الداخلية، أو يسمح بفُرصٍ أكبر للفرز والتقييم وعدم الانخراط فى السياقات المصنوعة. إنجاز المهمّة يفرض النظر إلى مسألة تحصين المعلومة نفسها، وحصار احتمالات أن يُعاد توظيفها ضمن سرديّة مُوجّهة؛ وهنا لا يمكن الحديث عن حُريّة دون قيود، ليكون السؤال البراجماتى الصريح: إلى أى مدى ننتظر من المؤسَّسات أن تُحرِّر دفاترها؟ وبأى درجة يجب أن يتقيّد الأفراد راضين وطائعين؟ من هذا التصوُّر يكون القانون قيدًا كما هو حرية، وتقع مسؤولية الحركة المُتناغمة داخله على الطرفين بالتساوى، مع الإقرار بأهمية ألا تتّسع القيود، وأن يُنَص على الخطوط الحمراء حصرًا، وتُلزم الجهات التنفيذية بالتعاون واجتناب المُراوغة، على أن يُنظر فيما إذا كنا نحتاج مجلسًا أعلى للمعلومات، أو يُمكن تنظيم المجال من خلال مفوضية أو هيئة فنية تتبع المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
كان المجلس قد وضع مشروعًا للقانون قبل ستّ سنوات، وأنجزت لجنة الإصلاح التشريعى صيغة أُخرى، وحتى اللحظة هناك نحو ثمانية رؤى تشريعية مطروحة للنقاش، وربما أفرزت مداولات الحوار الوطنى أفكارًا أكثر طموحًا. بقدر الثراء الحادث فى الملف يبدو التحدّى كبيرًا، من ناحية تلخيص التصوّرات وتركيزها فى متنٍ واحد يصلح للتوافق. اتساع رقعة الاختلاف يُؤكّد أننا لسنا إزاء قضية محسومة، وقد لا يكون ميسورًا التوصُّل إلى نصٍّ جامعٍ يخلو من النقد أو التحفُّظ؛ إنما الواجب أن تنصبّ الجهود على إنتاج حالةٍ تصالُحيّة يأمن أطرافها على صيانة ثوابتهم، ويُقرّون بأنهم لن يأخذوا كل شىء بالطريقة التى تُرضيهم حصرًا. أىّ شذوذٍ عن التفاعل بنسبيّة وازنة للمُعادلة قد يُطيح احتمالات اجتياز الامتحان، مع ما يترتّب عليه من خسارةٍ لكل الأطراف: المؤسَّسات من جانب التضحية بميزة الإجماع تحت راية المعرفة، وقوى السياسة بالتفريط فى فُرصة النفاذ لعقل الدولة والاستفادة بمخزونها من الحقائق والخبرات. المجتمع يقف فى المنتصف مُتعطّشًا للمعلومة، ومُتطلّعًا لأن تكون حجّة له لا عليه.
خُلاصة الموقف.. لا خلاف على الحاجة لإقرار «حرية تداول المعلومات»، ولا نزاع فيما يخصّ حق المواطن فى المعرفة، وكونه مدخلاً ضروريًّا لتفعيل حقوق أُخرى، بل وتكامل المُؤسَّسات العامة وتنسيق جهودها لصالح خُطط الحوكمة والتنمية الشاملة، فمنظومة الحُكم رابحٌ مُباشر منه بقدر ما ستتربّح الأحزاب والإعلام والكيانات والأفراد؛ إنما المُهم أن يكون الطريق إليه مُحاطًا بنقاط رصدٍ وتأمين، حتى لا ينحرف المسار أو يُعاد إنتاج الفوضى تحت لافتة القانون. موضوعات الأمن القومى لا لَبس فيها، وقد تفرض بعض الاعتبارات أن تمتد الحصانة لعناوين إضافية بحسب الظروف وتبدّلاتها، ولقاء ذلك ستكون قُدرات الدولة فى خدمة مكوّناتها جميعًا، وسيتحرّك الإعلاميون والسياسيون والمُستثمرون وناشطو المجتمع المدنى فى نطاقٍ مُعزّز بالشفافية والأرقام؛ بما لا يجور على المصلحة العُليا أو يُعرّضها للخطر. السؤال عن قدرة كل طرف على سداد حصّته من فاتورة التوافق، وتضامن الجميع معًا لإعادة تأهيل المجال العام وفق الحاجات الطارئة. التشريع والسياسة جسد التجربة ووجودها المادى؛ لكن ستظل روحها واستمرارية حياتها فى الثقافة أوّلاً وأخيرًا.