"لا تستثمر أبداً في عمل لا يمكنك فهمه"، وارن بافت، رجل الأعمال المعروف والمستثمر الأمريكي الأشهر في بورصة نيويورك، 93 عاماً، هذه الكلمات الذهبية لرجل يعرف جيداً أين يضع أمواله؟، وكيف يخطط للاستثمار فيها بصورة تعتمد على الحيازة طويلة الأجل، بديلاً عن المضاربة والمكسب السريع، الذي لا يخدم دورات الإنتاج أو يحفز الأسواق على النمو، أو يحقق التوازن المطلوب بين العرض والطلب، أو يسهم في تحقيق استقرار اقتصادي حقيقي.
بعض الإجابات قد نظن أنها سهلة، يمكن أن تنتهي بنعم أو لا، لكن في حقيقة الأمر الموضوع أكثر تعقيداً من كل تصوراتنا، فلن تجد كتاباً تقرأه فتصبح مليونيراً في خمسة أيام، أو محاضرة تدخل من خلالها نادي الأثرياء، فالواقع يقول أن الأسواق المفتوحة لا تحكمها سوى مؤشرات العرض والطلب، وهذا يذكرني دائماً بالفيلم الأمريكي الشهير "ذئب وول ستريت"، عندما التقي جوردان بيلفورت مع مارك هانا، وقد كان الأخير سمساراً في البورصة، وقدم للأول نصائح مهمة عند التعامل مع العملاء، وكانت أهم عباراته أن البورصات وأسواق المال لا يمكن لأحد أن يعرف إن كانت الأسهم ستصعد أو تهبط أو تستقر عند حالتها، فكل ما يثار عنها مجرد تكهنات!
مشكلة جمهور الاقتصاد في مصر أنهم يرغبون في الثراء بين عشية وضحاها، فالكل يسارع نحو المضاربة، والمكسب السهل، والعمل السهل، والصعود السهل، وهذه طريقة إن أفلحت مرة غالباً ما تخيب مئات بل آلاف المرات، لذلك يجب أن نتخلص من ثقافة المضاربة، التي باتت سمة أساسية من سلوكنا الاقتصادي خلال الفترة الأخيرة، خاصة أن مخاطرها غير محمودة ويمكنها أن تحول الاقتصاد إلى فأر نحيل بين مخلبي قط جائع..
ثقافة المضاربة حولت تجارة السيارات في مصر على سبيل المثال إلى مقامرة غير محسوبة، يقع العبء فيها أولاً على المستهلك، الذي لا يعلم أنه يشتري سيارة تزيد عن ثمنها الحقيقي ربما عشرة أضعاف، فالسيارة المستعملة التي وصل سعرها في السوق لـ 600 و700 ألف جنيه، تباع في البلاد الأوروبية مقابل 5 آلاف يورو أو أقل، حسب الحالة وسنة التصنيع، مع العلم أن هناك سيارات مر على تصنيعها أكثر من 50 عاماً ومازالت تباع بوصفها "فابريكا"، وهو أمر يدعو للعجب، فمثل هذه السيارات تم تكهينها في المدافن العملاقة بمختلف دول العالم قبل عشرات السنوات.
من السيارات إلى الذهب نجد أن المصريين تعلموا درساً صعباً خلال الفترة الماضية، بعد الخسائر التي لحقت بالمعدن الأصفر، نتيجة المضاربة على أسعاره وحجم الطلب الضخم، وأنا أعرف شخصياً حالات ونماذج أغلقت أعمالها وباعت ميراثها، وخططت لتصفية مشروعاتها من أجل المعدن الأصفر، تحت مزاعم خبراء التضليل وأصحاب المصالح، والتقارير الإعلامية مدفوعة الأجر، التي كانت تصور أن الذهب سفينة نوح، ومن اشتراه حفظ أمواله ومدخراته من الضياع، لكنهم للأسف وقعوا ضحية لمافيا فساد الضمير.
لا يوجد محل ذهب واحد في دول الخليج يبيع أو يشتري للمستهلكين دون شاشة لحظية توضح حركة الأسعار عالمياً، ومقومة بالعملة الوطنية، ونسبة الضرائب والمصنعية، وكل ما يمكن أن يتحمله المشتري، لكن في مصر الأمر مختلف تماماً، فتجربة شاشات الأسعار غير موجودة، حتى في أكبر وأهم المحال، لذلك لا شفافية لا مصداقية، الكل يحتال على الآخر من أجل الربح والمكسب، وهذا يحتاج إلى رقابة فعالة وتدخل حاسم من الحكومة والجهات المعنية.
للأسف وأقولها بصراحة بالغة، لا توجد تغطيات إعلامية أو تحليلات محترفة ترصد وتتحدث عن أسعار الذهب، كما يحدث في وسائل الإعلام الغربية، فالأمر يتميز بـ "خيبة" مزدوجة، فليس هناك محللين فنيين على قدر من الكفاءة والفهم للحديث عن هذه السوق المعقدة، فكل من يتحدثون مجرد تجار ذهب وأصحاب مصالح، يقودون السوق دائماً في اتجاه واحد ويحركون الأمور لخدمة تجارتهم، على المستوى الآخر يتوقف دور الإعلام عند رصد الأسعار، دون تحليل أو توضيح أو حتى توعية للمستهلك بالقرار السليم في البيع أو الشراء، فلن تجد أخباراً أو تحقيقات أو قصص إخبارية تتحدث عن هذه التجارة وحجمها وارتباطها بالدولار، ومستويات التسعير، والأباطرة الذين يحددون الأسعار يومياً، والفروق السعرية بين دولار البنوك، والدولار في محال الذهب، خاصة أن الفارق كبير، ربما يصل إلي 30 و 40%.
لا يمكن تحديد سعر الذهب وفق أهواء أو توقعات مجموعة من التجار، بينما الموضوع يخضع لبورصة وأسعار عالمية يتم تحديثها لحظياً، اعتماداً على حجم العرض والطلب، والرغبة في البيع وجني الأرباح أو ربما وقف الخسائر، لذلك لا يمكن لأحد أن يتعلل بأن الأسعار في مصر لا ترتبط بالعالم، فهذا أمر غير منطقي أو معقول، لكن عشوائية التسعير وغياب الرقابة جعلت الأمور تفوق كل الحدود.
أتمنى أن نصل إلى مستويات من الاحتراف والمهارة في التعامل مع القضايا الاقتصادية، بصورة تخدم مستقبل هذا البلد، وثقافة تحترم حقوق المستهلك، وتضع في اعتبارها خدمة المجتمع، دون أن يكون الهدف دائماً المضاربة والمكسب والثراء السريع، خاصة أن هذه الأفكار لا يمكن أن تنجح مع اقتصاديات ناشئة ودول نامية تتحسس طريقها نحو مستقبل أفضل.