ليست المرّة الأولى التي أشارك في تحكيم مشروعات التخرج لطلاب جامعة مصرية، وتحديدًا جامعة فاروس، لكن ثمة انطباع أول يتكوّن إثر كل مشاهدة لأفلام اختارت مواضيع مهمة، وعالجتها في أطر شكلية مختلفة حاولت الارتقاء بصريًا قدر المستطاع.. وقدر المستطاع هنا لا يعني افتقاد الإمكانيات أو نقصانها، لأنها في الواقع متوفرة بقدر وفرة التكنولوجيا وتعاطي الطلاب معها، إنما المقصود هو أنه ليس معقولًا التعامل مع مشروعات طلابية بنفس معايير المحترفين ذوي الخبرة والتجربة الميدانية الأكبر، بل يجب النظر إلى أفلامهم حسب استطاعتهم وخطوتهم الأولى,
وإن كنت لاحظت في كل مرة طموح طلاب جادين، يشتغلون بحماسة في جميع العمليات الفنية التي تحتاجها صناعة الفيلم من تصوير ومونتاج وسيناريو وإخراج.. إلخ، ويسعون إلى فهم التقنيات المختلفة لصناعة الصورة السينمائية، ومع هذه الحماسة والحمية التي تتوازى مع رغبة مشتعلة في التخرج واستكمال الطريق السينمائية عمليًا، ينتابني السؤال: إلى أين ستأخذهم الطريق؟.. سؤالي يدرك أن دراسة السينما ليست سهلة، وكذلك العمل في ميدانها، لأن هذا بقدر ما يعتمد على الوعي والمعرفة بالثقافة البصرية، يحتاج أيضًا الارتكاز على ظروف إنتاجية مساعدة، وعلى أية حال فإن هذه النماذج من مشروعات التخرج تشير غالبيتها إلى بذور موهبة لافتة للانتباه.
من خلال21 فيلمًا لطلاب مختلفي الهواجس والاتجاهات، جاءت الموضوعات في نسق تعبيري تتكون تفاصيله من واقع إنساني يتسم بألم وانكسار ما، فيشتبك الفيلم في لعبة التحدي للخروج من نفق الأوجاع، فعلى الرغم من التنويعات المتفرقة التي قدمتها الأفلام، هناك رابط يجمعها معًا في السؤال الوجودي للفرد في واقع قاس، قائم على الفقد بدلالاته وتحولاته وتعبيراته كلها، ما يصنع نوعًا من الانفعال المرتبك وصعوبة التفاعل مع المجتمع المحيط، بل مع المرء ونفسه أحيانًا.
الموت ونزعة التفكير فيه بأشكال متباينة توضح كيف أن الإنسان كائن ضعيف، تغلبه الرهبة إزاء فكرة الرحيل، هذه النزعة سيطرت على بعض الأفلام الروائية القصيرة، بما يثير الدهشة نحو هؤلاء الصغار وأي تجارب عاشوها لتسيطر عليهم فكرة الموت هكذا، كما ظهرت في "بلوفر أحمر" لـ محمود أبو المعاطي، "صورة لأحيا" لـ ردينة حسن، "واحد في المية" لـ نورهان لبيب، "زنة" لـ عمر نجم، ذكرى لـ مريم مصطفى، ما بين موت الأم والفقد العائلي، وسرطان الثدي الذي يصيب واحد في المائة من الرجال، لكنه إرث عائلي.. موضوعات تبدو أنها مستوحاة من أحداث حقيقية، وهذا عنصر مشترك آخر، رغم اختلاف في المعاينة والسرد، وإن كان ثمة مشكلة في السرد والكتابة التي احتاجت تعميق وتكثيف أكثر، لتحويل الحكايات كلها إلى عوالم مفتوحة على سحر الصورة ورونقها، وهذا بالطبع يكرس للعلاقة بين الدراما والصورة بما تحتويه من اشتغالات فنية وجمالية.
الخوف من التيمات البارزة أيضًا في أفلام حاولت أن ترسم وجها من وجوه الجرأة والمواجهة والكشف عن جذور الخوف مثل "الغولة" لـ خالد الطحان، أو تتعاطى مع المجتمع كنموذج للوهم حتى أن أفراده يرتدون أقنعة الضباع كما ظهر في فيلم التحريك "ضد الضباع" لـ كريم حسني، حتى لو بدت هذه التيمات فردية لكنها معبرة عن رأي صانعيها في الحياة، كل يمتلك زاويته أو "وجهة نظر" كما عنوان الفيلم الذي قدمته صوفيا أشرف، والكل يصبو نحو التمرد والتخلص من أية قيود تعرقل حياته، بدءً من القيد العائلي وفجوة التواصل بين الأجيال كما " في بيتنا قصة" لـ عبد الرحمن علي، "المزاد" لـ حبيبة فخراني، إلى الخلاص بالتماهي مع الخيال الشاسع، على طريقة الألعاب الإليكترونية الشهيرة كما في "العالم الخارجي" لـ عبد الرحمن السيد، و "404" لـ يحيي تايفور.
الخيال يطالعنا بقوة في أفلام التحريك كجزء أساسي من صناعة الصورة الفنية الجديدة، فلم يبق فيلم التحريك أسير التقليد المتبع في صناعة الرسوم المتحركة، التي عرفت بدورها تطورًا مثيرًا للانتباه منذ أعوام طويلة، بما منحها نمطًا جماليًا مفتوحًا على تجارب فنية مختلفة، بدا ذلك واضحًا في أفلام مشروعات التخرج، لا أبالغ في القول إن فئة التحريك تضمنت أفلامًا جيدة عكست طموحًا شبابيًا واختبارًا طلابيًا، كما في "مخاميخو" لـ حبيبة خالد، "بكلاويز" لـ آية الله عبد المنعم.. الجماليات في هذا النوع السينمائي مصنوعة ببراعة، وفيها حس إنساني واضح، لكنها تفتقد الهوية الجغرافية والثقافية، وهذه سمة عامة أتصور له علاقة بالانفتاح على العالم الخارجي دون تأكيد الجذور.
أربعة أفلام وثائقية هي: "بيانكي" لـ علي عمرو محمد، "الجورنال" لـ رؤى عمرو، "برج حمام" لـ أحمد مصطفى سليم، "صلاح جاهين" لـ نورهان نشأت، استمدت أدواتها الجمالية من واقعها، من بيانكي والمقارنة بين الماضي والحاضر، من شباب يمارسون رياضتهم مع أمواج البحر ويحلمون بأفق أوسع، إلى بائع الصحف في دمنهور الذي يعيش في أحلام الماضي المزدهر ووطأة الحاضر الجاثم على صدره، بتهديد إندثار الصحف الورقية، بضاعته ومصدر رزقه وجزء راسخ في حياته كذلك، إلى إيتاي البارود وكيفية بناء أبراج الحمام في عالم مختلف وحياة نادرة، أما "صلاح جاهين" ففيه جهد واضح بذلته المخرجة لتناول شخصية مبدع متعدد الأوجه مثل صلاح جاهين، وإن إحتاج التركيز على زاوية واحدة وتكثيفها ليصبح فيلمًا متماسكًا، وعلى أية حال فإن الموضوعات هنا على تباينها واختلافها، ترتكز في بنيتها على المساءلة والقراءة الصدامية للواقع الراهن، محاولات معقولة وإن بدت في احتياج إلى بعض التفاصيل لتزيد من حيويتها ومحتواها السينمائي شكلًا ومضمونًا، حتى لا تشبه الأفلام الوثائقية التقليدية الأقرب إلى الـ"ريبورتاج" التليفزيوني، لكنها إجمالًا تجربة طلابية جديرة بالتوقف عندها لما تطرح من أسئلة وتعبر عن هواجس ما.
فيلمان لا يغادران ذهني بعد يومين من المشاهدة، وهما "بابا قال لي" لـ باسنت أحمد و"سند" لـ ضحى السيد سليمان، والاثنتان نواة لمخرجات على قدر كبير من الوعي والحماس والمهارة، بما يبشر بحضور مستقبلي لهما على خارطة الإخراج كما أتمنى.
فيلم "بابا قال لي" إذ يتخذ أشكالًا بصرية متفرقة، تعبر عن عالم شكليًا هو غرائبي بما يتناسب مع نزعته التجريبية، فإن "سند" بشكل آخر هو صدى التمزق الحاد في الذات الفردية وعلاقاتها بمحيطها والعالم أجمع، والفيلمان يؤكدان على حساسية النص والصورة في سردهما، كما يحضر فيهما الأب بصورة تروي سيرة شخصية لا تنفصل عن ذاكرة بلد، دون أن تفقد جماليات السرد والتصوير والتمثيل.
الأب في "بابا قال لي" يمارس اختناقًا حتى يكاد يضع الابن في حيز مدمر، أوامر صارمة تؤذي الروح والنفس والجسد، تيمة صعبة اشتغلت عليها المخرجة بأسلوب تجريبي، كرنفالي أحيانًا، يمزج بين الواقع والخيال ويعتريه ملمحًا ساخرًا أحيانًا، وكل هذا يعبر عن حماستها السينمائية ويقول شيئًا من ذات المخرجة وانفعالاتها، انطلاقًا من هذا الضغط، تجربة هي في حد ذاتها مناجاة للذات، كما أنها تحريض على مزيد من الأسئلة الوجودية.
أما الأب في "سند" فهو نموذج مختلف، لهذا الرجل الصامت، المثير للدهشة والاستفهام، المصور الصحفي الذي يعيش تحت ضغط الحروب، حتى أنه يتصور عمارة مهدمة في مدينته الإسكندرية فيتذكر دمار الحروب، إنه مسكون بالأسرار مثل بحر مدينته الهادر بأمواج تخفي وراءها الكثير، علاقته بابنته قدمتها المخرجة التي تصر أن توقع اسنها ثلاثيًا ليشمل اسم والدها كاملًا، على أنها العلاقة الوحيدة الأصح في زمن تتأثر أحواله بحرب بعيدة في أوكرانيا.
الموضوع حساس يُصيب عصبًا في النفس، لكنه مفتوح على احتمالات جمة، تذهب بعيدًا في سبر أغوار وأعماق وخفايا، تحتاج إلى التفكيك ومزيد من الاكتشاف، جماليات الفيلم البصرية طاغية، وكذلك بنائه السردي المرتبط ببيئة وعقائد ومواقع وأمكنة.. الكتابة أساسية، كما التصوير والمتابعة والعيش اليومي في دائرة الخطر، إنه بالفعل مكتمل العناصر إلى درجة كبيرة.
يبقى أنها أفلام، مشروعات تخرج قد يراها البعض لا تعبر عن شيء سوى درجة من درجات الاختبارات الدراسية، لكنني أراها بذرة لتجارب وأسماء واعدة قد تكتمل بها مساحة تنوير في مرحلة مقبلة، هكذا أتمنى.