زخم كبير تحظى به الزيارة الهامة التي يقوم بها رئيس وزراء الهند نياندرا مودي إلى القاهرة، ليس فقط لأنها الأولى من نوعها منذ توليه منصبه، وإنما في ضوء العديد من المعطيات الأخرى، ربما أبرزها التوقيت، مع تصاعد الصراع الدولي في أوكرانيا، بالإضافة إلى تصاعد الدور الذي تلعبه الصين، والتي تسعى الهند لمنافستها آسيويا، على الساحة الدولية، في القلب منها المنطقة العربية، ناهيك عن ترتيب الزيارة، في إطار جولة خارجية يقوم بها المسؤول الكبير، والتي جاءت مباشرة بعد زيارته للولايات المتحدة، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول أهمية الزيارة، والتي تعكس بكل تأكيد، الأهمية التي تحظى بها مصر، كأحد المحطات الدولية الهامة، بحكم الجغرافيا والتاريخ، والتي جعلت منها "نقطة اتصال" إقليمي، تجاوزت في حقيقة الأمر، دورها، الذي رسمته لها القوى العالمية المهيمنة، خلال العقود الماضية، كقيادة إقليمية محدودة النطاق في منطقة الشرق الأوسط.
زيارة مودي للقاهرة، تحمل أهدافا استثمارية، ترتبط بتعزيز العلاقات الاقتصادية، والسعي نحو اقتحام السوق المصري، في ظل طفرة تنموية كبيرة، شهدتها "المحروسة"، في السنوات الماضية، إلا أنها لا تخلو في الوقت نفسه من أهداف سياسية، تتعاطى في جوهرها مع مخاوف نيودلهي، جراء الصعود الكبير لبكين، ناهيك عن حرصها على تحقيق أكبر قدر من التوازن في علاقاتها مع القوى الدولية المتصارعة، من جانب، وتتواكب مع أهدافها وطموحاتها الدولية من جانب آخر، عبر القيام بدور أكبر من شأنه تعزيز موقفها على الساحة الدولية، خاصة فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، والتي تمثل، قلقا بالغا في ظل إمكانية تطور الصراع، إلى حد استخدام الأسلحة النووية، بينما تقدم في اللحظة نفسها فرصة مهمة حال استطاعت الهند القيام بدور أكبر خلال المرحلة المقبلة في احتواء الأزمة.
ولعل الدور الذي تسعى الهند للقيام به، ليكون بمثابة "طوق النجاة"، في مواجهات التهديدات المحيطة بها، وفرصتها للصعود الإقليمي والدولي، هو القيام بدور "وسيط"، من شأنه الدخول على خط الأزمة بين روسيا والغرب، في إطار الأزمة الأوكرانية، وهو ما يمثل محاولة جادة لمزاحمة بكين، والتي تبدو أحد أبرز القوى المؤهلة للقيام بهذا الدور في اللحظة الراهنة، في ظل القبول الروسي لها، بالإضافة إلى تهدئة التوترات المحيطة بها، والتي قد تتفاقم حال الفشل الدولي في احتواء الصراع الراهن في أوكرانيا.
ومؤهلات الهند تبدو كبيرة للقيام بدور "الوسيط"، في ضوء موقفها المحايد منذ بداية الأزمة، بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية الكبيرة، ودورها الإقليمي في النطاق القاري الآسيوي، ناهيك عن موقعها الجغرافي القريب نسبيا من منطقة الأزمة، وهي نفس مؤهلات بكين، إلا أنها تتفوق نسبيا، فيما يتعلق بالقبول الأمريكي، والتي تسعى إلى تعزيز شوكة الهند آسيويا ودوليا، وهو ما بدا منذ حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، واستمر في عهد بايدن، الذي آثر اختيار كامالا هاريس، ذات الأصول الهندية، في منصب نائبة الرئيس، عندما خاض الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على عكس الصين والتي لا تحظى بهذا القبول، بينما لن يجد الدور الهندي المحتمل رفضا روسيا، في ظل العلاقات الكبيرة بين الجانبين، سواء على المستوى الاقتصادي أو الدفاعي، أو العسكري.
وهنا تبدو الأهمية الكبيرة لزيارة رئيس وزراء الهند للقاهرة، في أعقاب زيارته للولايات المتحدة، في ظل التحرك الجاد نحو "البحث عن شرعية" دولية للدور الذي تسعى نيودلهي للقيام به في اللحظة الراهنة، خاصة وأن احتواء الصراع الراهن في أوكرانيا، ليس شأنا إقليميا فحسب، وإنما ضرورة دولية ملحة في ظل التبعات الكبيرة المترتبة عليه، خاصة على الدول النامية، والتي باتت تعاني أزمات كبيرة، تتعلق بالغذاء والطاقة.
ويعد انطلاق الدور الذى يسعى إليه رئيس الوزراء الهندي في اللحظة الراهنة، من قلب مصر، انعكاسا مهما للعلاقات التاريخية بين البلدين، والتي تعود إلى عدة عقود ماضية، أثمرت عن حركة "عدم الانحياز"، والتي ولدت من رحم الصراع الدولي، خلال مرحلة "الحرب الباردة"، إلا أن الأمور ربما تبدو مختلفة، مع تجدد حالة الصراع، في ظل السعي نحو التحرك الإيجابي، لحل الأزمة، وهو ما يساهم في تقوية شوكة "المعسكر النامي"، وإضفاء قدر من الشرعية للدور الذي يقوم به في المرحلة المقبلة، فيما يتعلق بمجابهة الأزمات العالمية، عبر تعزيز العلاقة بين البلدين، ربما تمهيدا لإحياء الحركة، عبر تحديث دورها بما يتواكب مع الحالة الدولية الراهنة، وذلك بالقيام بدور فعال لاحتواء الأزمة، بعيدا عن نهج الحياد السلبي، الذي ساد تحركاتها في الماضي، وذلك مع الانطلاق نحو حقبة جديدة، ستشهد لا محالة حالة من التعددية، بعيدا عن الهيمنة الأحادية التي سادت العالم خلال العقود الأخيرة.
وهنا يمكننا القول بأن زيارة رئيس وزراء الهند لمصر في هذا التوقيت، تحمل مدلولات تتجاوز العلاقات الثنائية، حيث تمتد في جوهرها إلى العديد من الجوانب الأخرى، تتعلق بالتنافس مع الصين، والسعي إلى القيام بدور دولي أكبر، في المرحلة المقبلة، ناهيك عن تقوية شوكة "العالم النامي"، عبر "بناء" دوره فيما يتعلق بالأزمات الدولية الكبيرة، وهو الأمر الذي سيفتح الباب أمام هذا المعسكر، للمناورة، فيما يتعلق بالعديد من القضايا الأخرى، والتي تمثل أولويات قصوى، مع تواتر الأزمات، وهو الأمر الذي تدرك الهند، كما أدركت غيرها من الدول، لا يمكن أن ينطلق إلا من القاهرة، باعتبارها أحد أهم "نقاط الاتصال الإقليمي" في العالم، بحكم هويتها العربية وامتدادها الإفريقي، وموقعها المتوسطي، والأهم من ذلك قدرتها على تحقيق التوازن في مواقفها الدولية.