لم يقتصر "الخروج الآمن من الحالة الثورية" على مجابهة التحديات الكبرى، سواء في إطار الحرب على الإرهاب، أو إعادة بناء الاقتصاد مجددا بعد سنوات الفوضى، وإنما امتدت كذلك إلى العلاقات الدولية مع المحيطين الإقليمي والعالمي، عبر إعادة صياغتها بما يتواكب مع طبيعة المرحلة، وهو الأمر الذي يتطلب انطلاقة ثورية، بينما يبقى في حاجة إلى إدارة متأنية تعتمد نظرة فاحصة إلى التغييرات الكبيرة التي يشهدها العالم، في ظل صعود قوى جديدة تسعى للقيام بدور ملموس على الصعيد الدولي ومزاحمة الولايات المتحدة على قمة العالم، بعد عقود من هيمنتها المطلقة، تعود إلى انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات من القرن الماضي.
ولعل ما يمكننا تسميته بـ"الثورية" الدبلوماسية، بدت واضحة في أعقاب 30 يونيو، عبر الانفتاح الكبير نحو روسيا والصين، باعتبارهما القوى الأكثر تأثيرا على الساحة الدولية، وبالتالي مؤهلتان بصورة كبيرة للقيام بدور أكبر في مختلف القضايا الدولية، بينما تحقق التوازن المنشود، عبر الاحتفاظ بالطبيعة الاستراتيجية للعلاقات مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل تغييرا كبيرا في المسار الذي اتخذته الدولة المصرية، بعد سنوات من الاعتماد على حليف واحد، حيث ساهمت تلك الحالة، ليس فقط في مواكبة التغيير الكبير الذي يشهده العالم، إثر التحول نحو حالة من التعددية، من شأنها إنهاء زمن الهيمنة الأحادية المطلقة، وإنما أيضا تحويل علاقة مصر بدول العالم نحو "الشراكة"، والتي أصبحت بمثابة البديل الشرعي لمفهوم "التحالفات" بصيغتها التقليدية.
والفارق بين "الشراكة" والتحالف، يمثل جوهر الرؤية المصرية في إدارة علاقاتها الدولية في سنوات ما بعد 30 يونيو، حيث يعتمد الأول على التركيز على المشتركات، والعمل على تعظيمها، لتتضاءل معها النقاط الخلافية، بينما تعتمد فكرة "التحالفات"، على التطابق التام في وجهات النظر وهو ما لا يمكن تحقيقه، في ظل معطيات العالم الجديد، وهو ما يبدو بوضوح، على سبيل المثال، في العلاقة المرتبكة، بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، بعد عقود من الاتفاق التام والكامل في المواقف الدولية التي تبناها الجانبين، تعود إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع واشنطن نحو مواقف حملت صبغة تبدو عدائية تجاه حلفائها التاريخيين، بدء من التعريفات الجمركية التي فرضتها على الصادرات الأوروبية مرورا بالسعي نحو تفكيك الاتحاد الاوروبي وحتى تصدير الصراع إلى مناطقهم الجغرافية، وهو ما يبدو في الأزمة الأوكرانية.
وإلى جانب العلاقات مع القوى الدولية الكبرى، نجد أن ثمة تغيير كبير في إدارة العلاقات مع المحيط الإقليمي الواسع، عبر العودة مجددا إلى إفريقيا، وتوسيع نطاق العلاقة مع كافة دولها، بل والعمل على تبنى مصالحها في مواجهة دول العالم المتقدم، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، سواء إبان رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي قبل عدة سنوات، أو خلال قمة المناخ الأخيرة التي عقدت في مدينة شرم الشيخ، وهو ما يمثل انعكاسا للثقة التي باتت تحظى بها الدولة المصرية في عمقها القاري.
النهج الجديد ساد الرؤية المصرية في محيطها العربي، عبر العمل على تعظيم المصالح المشتركة، والعمل على بناء شراكات، ذات طابع متعدد، على غرار الشراكة مع العراق والأردن، ومع دول الخليج، وغيرها، وهو ما يمثل انعكاسا لإدراك الدولة المصرية لطبيعة الحقبة الدولية الجديدة، والتي تتطلب العمل الجماعي، بعيدا عن القيادة الأحادية، بينما ركزت في الوقت نفسه على استحداث دور جديد لها، يتجاوز الجغرافيا الإقليمية التقليدية، عبر التحول إلى "نقطة اتصال إقليمي"، من شأنها تعزيز العلاقة بين الأقاليم، وهو ما بدا في التقارب الكبير من أوروبا، عبر عقد شراكات مع قوى جديدة، على غرار اليونان وقبرص، وكذلك مجموعة فينينجراد في شرق القارة العجوز، وهو ما يمثل تغييرا جذريا في التحركات الدبلوماسية، إذا ما قورنت بالعقود السابقة.
وهنا يمكننا القول بأن الدبلوماسية المصرية، لم تخرج من الحالة الثورية التي هيمنت على المشهد المصري في 30 يونيو، ولكنها اتسمت بما يمكن تسميته بـ"الثورة الهادئة"، والتي اعتمدت توجهات جديدة تماما، تختلف جذريا عن الرؤى القديمة، عبر تنويع الشراكات، والعمل على الاحتفاظ بمسافة متساوية مع كافة الدول الأخرى، والتوجه نحو "التصفير التدريجي" للخلافات مع القوى الدولية والاقليمية الاخرى، ولكن دون انقلاب على الثوابت التي طالما رسختها لسنوات طويلة، وعلى رأسها عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى، وهو ما يمثل جانبا مهما في إطار الانجازات التي تحققت على خلفية الثورة الملهمة التي أنقذت المنطقة، بل وساهمت في تغيير الصورة التي أرادت القوى الدولية الكبرى رسمها، ليصبح نجاحها أحد أهم إرهاصات الحقبة الدولية الجديدة