كان قصاصا بأثر رجعى عن تاريخ طويل من الانحطاط والخيانة والدم.. والعنف والخداع والتدليس واختراق المؤسسات ركائز راسخة فى عقيدة التنظيم
عشر سنوات بالتمام على أحد أهم الأيام فى تاريخ مصر الحديث، صحيح أن اكتشاف المرض كان سابقا عليه، والعلاج جاء تاليا له، إلا أن 30 يونيو يظل يوما فاصلا، انطلاقا من أنه وضع «الإخوان» فى مواجهة مباشرة مع الشعب المصرى كاملا للمرة الأولى، رغم مدونتهم الزاخرة بالسقطات والصراعات طوال ثمانية عقود، كانت التنظيم فى كل ما مضى يخوض حروبه ضد الدولة أو الطبقة السياسية، مع الاستناد إلى جاذبية خطاب الدين وقدرته على التلوّن والخداع؛ من أجل اجتذاب العوام أو تحييدهم، فلم يستشعر الناس حجم الخطورة التى تُهدّد هويّتهم ومعاشهم وبيئتهم الاجتماعية بفعل أدواره ومُمارساته المنحرفة، وهى المساحة الغاطسة من جسدٍ ضخم تكفّلت «يناير 2011» وما تلاها بتعرية جزء فيه، وتولّى الإخوان أنفسهم نزع الغطاء عمّا بقى مستورًا منه خلال سنة اعتلوا فيها السلطة وتصدّروا واجهة المشهد، باكتمال النصف الأول من 2013 كان كل شىء واضحًا تمامًا، وكان على الجماعة أن تمثُل للمُساءلة والحساب عن واقعها وتاريخها دفعة واحدة، وأن تتجهّز لسداد كل الديون والفواتير المُؤجّلة.
جذور الإرهاب عند الإخوان.. نشأت الفكرة الإخوانية فى حاضنةٍ شمولية، ضابطها سلطة الفرد المُتمثّلة فى شخص البنا/ موقع المرشد، وقوامها تزاوج مركزية خطاب الاعتقاد مع آليات الإخضاع، وفق معادلة: معرفة الإمام وجهل الأتباع.. بُنيت المرحلة الأولى على فرزٍ وانتقاء للأعضاء بمعيار الجهل؛ حتى يترسّخ المركز المعنوى لقائد التنظيم انطلاقا من السيادة الروحية والعقلية، واستمرّت الصيغة باستقطاب الطلاب والحرفيين والأُمّيين، أو تعويض سلطة المعرفة بأفضلية «السبق فى التنظيم»، وفى سبيل تثبيت الهيمنة اعتمدت الجماعة فكرة الأسرة الإخوانية، فاستقطبت الزوجات والأبناء، وأسَّست أعمالاً ومشروعات وشاركت قواعدها فى تجارتهم وأنشطتهم؛ من أجل ربط حياة الجميع بها، حتى أن الانسلاخ عنها كان يُهدّد العضو بخسارة كل شىء، امتد هذا النهج وتوسَّع على طول الرحلة، فبات من الصعب أن تفصل مال الفرد عن ثروة الجماعة، فى المُحصّلة؛ لم يكن الانتماء إليهم اختيارًا خالصًا، ولا الخروج عنهم، أصبحت حظيرة الإخوان بناء حديديًّا، مُغلقًا، ووحشًا جائعًا يلتهم أتباعه أوّلاً؛ لنفخ جسده إلى المدى الأقصى، حتى يملأ الفضاء العام ثم يلتهم الجميع.
ماضيهم وحده كان كفيلاً بطرحهم خارج أى سياق سياسى أو وطنى؛ إلا أنهم عبروا كل المحطّات بفضل المراوغة والخداع وشىء من التقيّة. عقيدة الإخوان أنهم يُضمرون غير ما يُظهرون: قالوا إنهم لن يشاركوا فى تظاهرات 25 يناير ثم أعلنوا لاحقًا الدفع بشبابهم إلى الشوارع، أظهروا التوافق فى الميدان وعلى طاولات الحوار وكانوا يُبطنون الشقاق والمُغافلة للاستئثار بكل المكاسب، لعبوا بورقة التحالف فى انتخابات البرلمان ثم فجّروا أحداث محمد محمود واستثمروها لإلهاء القوى السياسية، قالوا إنهم لن ينافسوا على رئاسة الجمهورية ثم دفعوا باثنين من الكوادر وأربعة من التابعين، وادّعوا أنهم سيعملون مع الجميع بينما عملوا على تقويض المؤسَّسات واختطاف الدولة بكاملها، وحدهم ورغمًا عن الجميع، وقبل كل ذلك سعوا إلى تسويق أنفسهم كفصيل سياسى يلتزم أصول الدولة المدنية، ولا يستغل الدين أو يمارس الإقصاء؛ بينما ظلّت الجماعة حاكمةً فوق الحزب، وكانت الشعارات العقائدية والمُزايدة وسيلة إرهاب الخصوم، ولم يتوقّف العنف والتلويح بالقوة عن إسناد مُخطّطهم نحو الهيمنة وإجبار المنافسين على الصمت والإذعان.
عندما جاهر المرشد الخامس مصطفى مشهور فى محاضرة مع القواعد باعتناقهم الإرهاب، برّر رؤية الجماعة لإلزامية انتهاج العنف بادعاء أنه مُرتكز عقائدى راسخ، مُتّهمًا الإسلام بكامله بالتطرف حتى يُمرّر أفكار الإخوان، ثم أردف بأن ذلك من علوم الخواص التى يُعتقد فيها ولا يُعلن عنها للعامة، مُبرّرًا بالقول: «حتى لا يجفلوا من جماعتنا؛ فنحن فى فترة تشبه وجود الرسول فى مكّة، حيث كان آنذاك سلميًّا لا يُقاتل، ولكن بعد أن أقام دولته قاتلهم»، هذا بالضبط ما تقوم عليه الفكرة الإخوانية وإن أضمرته، والخلاصة أنها تدّعى احتكار تمثيل الدين حصريًّا، وتعتبر التنظيم عقيدة فوق العقيدة وجغرافيا بديلة عن الوطن، ولا حاجة لها بأحد آخر سوى عناصرها الذين «يحملون ماء السماء الطهور»، حسبما وصفهم المُرشد الثامن محمد بديع بالفعل، ومن هنا فإن أى صراع ستواجههم فيه يمكن أن يتحوّل بتعسُّف فج من حيّز السياسة إلى الاعتقاد، هذه فاشية دينية صريحة لا تقبل التأويل ولا إحسان الظن.
خيار «30 يونيو» الوجودى.. تنبع أهمية «30 يونيو» من أنها أحبطت برنامجًا عريضًا لوضع البلد تحت مظلّة الجماعة، ويُقاس أثرها العميق بالإجابة عن سؤال حاكم: ماذا لو لم تحدث الثورة؟ الحقيقة التى لا جدال فيها أننا كنا سنواجه سيناريو شديد البشاعة. كل المُقدّمات كانت تُؤكّد أن الإخوان لا يحترمون الممارسة السياسية؛ إلا من ناحية أنها رافعة تضعهم على رأس السلطة، ثم يُطيحون السلالم بعيدًا حتى لا يصعد إليهم أحد، خلال شهور قليلة استحوذوا على: السلطة التشريعية، وتأسيسية الدستور، والحكومة والمحافظين، ونشطوا فى إلحاق أبنائهم بالشرطة والجيش والنيابة، وصاغوا إعلانًا دستوريًّا سافرًا لتحييد كل المُؤسَّسات، وإلى جانب هذا المسار الذى اعتبروه قانونيًّا مشروعًا، كانت البلطجة الصريحة يدًا ثانية فى المخطط: حاصروا المحكمة الدستورية العليا، ومدينة الإنتاج الإعلامى، ومحكمة مدينة نصر، وضربوا المُتظاهرين فى الاتحادية والمقطم والجيزة وبقيّة المحافظات. كل ذلك ولم تكن الجماعة أسفرت عن وجهها القبيح بالكامل؛ إنما كان مُنتظرًا بعدما يكتمل لها التمكين أن تُحِلّ كياناتها بديلاً عن مؤسَّسات الدولة، وأن تنافس القوات المُسلّحة وأجهزة الأمن بـ«حرس ثورى» وميليشيات مُوازية، وتبتلع الإعلام والتشريع ومنصّات القضاء، وأن تُعيد هندسة الطريق نحو صناديق الانتخاب بما يعيق أى منافس عن تهديد أوضاعهم الجديدة، وكل ذلك على أرضية غير وطنية أصلاً، عنوانها دينى وسلوكها أُممى، عابر للحدود وثوابت مصر ومصالحها العليا؛ إن تحت لافتة «أستاذية العالم»، أو بنكهة استعادة الخلافة، إلحاقًا للدولة بمشاريع إقليمية وأجندات دولية صيغت فى أروقة مُعادية.
انطلاقًا من تلك الروح المشبعة بكراهية فكرة الوطن، الذى رآه «البنا» رديفًا للعقيدة، واعتبره سيد قطب حفنة من تراب عفن، وقال عنه المرشد السابع مهدى عاكف «طظ فى مصر»، لم تر الجماعة تناقضا فى الحديث عن السياسة بينما تغسل قمصان الإرهاب وتكويها، بدأ الأمر باقتحام السجون وهروب «مرسى» نفسه منها، ثم الإفراج عن إرهابيّين مُدانين فى جرائم ثابتة، وتواصل ديوان الرئاسة مع الظواهرى ومجموعته، وحديث الرئيس عن «سلامة الخاطفين» من جماعات العنف فى واقعة مُجنّدى سيناء، والاحتفال بذكرى 6 أكتوبر مع قتلة السادات، واستدعاء رؤوس الفتنة والتطرُّف للهتاف ضد الشيعة وسوريا فى استاد القاهرة، كانت الجماعة تتصرّف كما لو أن الأمر استتبّ لها، ولا أحد بمقدوره مُساءلتها عن أمورٍ تقع فى نطاق الإجرام الصريح، بالمعنى القانونى أو السياسى، فتصرّفت على طبيعتها كجزء من الأجندة الحركيّة للعنف المُتأسلم، وهو ما كان مُرشَّحًا للتزايد واتّخاذ صيغة تنظيمية وعملية مُستدامة، تحمل بين دلالاتها معانى انزواء الدولة لصالح الميليشيا، وإضفاء المشروعية والقبول على مسار «حيازة القوة» وإنفاذ إرادتها خارج الأبنية المُؤسَّسية، وفوق ذلك ردع الخصوم بالخيارات الخشنة، وتحصين الخشونة نفسها بالقانون انطلاقًا من الانفراد بالسلطة.
لعبة الانقضاض من الداخل.. كان اقتراب الجماعة من دولاب الدولة لعبًا مزعجًا بالنار، تاريخها ملىء باختراقات ناعمة وانقلابات من الداخل: بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى دفع حسن البنا حارسه الشخصى فرج النجار للانخراط فى الحزب الشيوعى، ويفخر التنظيم فى سرديّاته بأن جاسوسهم نجح فى المهمّة؛ حتى أصبح الرجل الثانى بين الشيوعيين فى الوجه البحرى، ونقل أخبارهم للمرشد، وحدث الأمر نفسه فى الجيش وبين الضباط الأحرار عبر عبدالمنعم عبدالرؤوف وآخرين، ثم هيئة التحرير والاتحاد القومى الاشتراكى، وفى الأحزاب اخترقوا «مصر الفتاة» قبل يوليو، وحاولوا مع الوفد، ثم نجحوا فى «العمل» منذ الثمانينيات حتى اختطفوه من اليسار وحوّلوه حزبًا إسلاميًّا، وبعد يناير 2011 خرجت وجوه من الأحزاب القائمة لتصطف مع التنظيم، وتأسّست نحو ستة أحزاب تابعة عبر خلاياهم السياسية النائمة، وتجددت محاولات الاختراق والتغلغل فى الوفد والدستور والمؤتمر، وبين الناصريين وائتلافات شباب الثورة.
الشواهد تفوق الحصر، والمعنى أن تمدُّد الجماعة فى أروقة الدولة كان ميسورًا بعدما وصلت للسلطة وانكشفت على كثير من الأسرار ودهاليز المؤسَّسات، إن الإشارة إلى التخابر وتسريب الوثائق كما فى حالات الطهطاوى وأيمن على وأمين الصيرفى وابنته وعشرات غيرهم، لا تقع خطورتها فى تمكين الأعداء الخارجيين من خزائن البلد فقط؛ بل مساعدة أعداء الداخل فى اللعب على المكشوف، وتوظيف المعلومات المتاحة لهم، بحكم مواقعهم على رأس الهرم الإدارى، فى خدمة مُخطّط الجماعة لابتلاع الدولة، عبر الإحاطة بعناصر قوّتها ونقاط ضعفها، واستغلال الثغرات المتاحة فى النفاذ إلى القلب وإحكام السيطرة على الدماغ.
من أجل إتمام «التمكين» استثمرت الجماعة فى الفتنة بكل صورها. بدأت بتعكير المياه بين القوى السياسية، من أجل أن تُواجههم شراذم ولا يتّحدون ضدها، ثم عزّزت الرهان على خطابات الفرز الطائفى وتديين المجال العام، نشطت بنفسها وحفّزت الحلفاء؛ فتضاعفت الفعاليات والخُطب والصحف والقنوات، وزاد استهداف المسيحيِّين والمُتصوّفة والشيعة بالقول والفعل، حتى أن حليفهم المُتطرّف أحمد عبدالوهاب «أبو إسلام» مزّق الإنجيل وأحرقه فى الشارع، ومارس محمود شعبان وحازم أبو إسماعيل وعبد الله بدر ووجدى غنيم وطابور طويل من أحذية التنظيم إرهابًا مفتوحًا على البلد بكامله، وتصاعد الهجوم على الموالد والأضرحة، وقُتل الشيخ حسن شحاتة علنًا بُمباركة الجماعة وشراكتها مع مجموعاتٍ من همج السلفية، هذا المناخ حاضنة مثالية للإخوان، يُجيدون الحركة فيه ويُحسنون توجيهه إلى حسابات أرباحهم؛ إذ يفتح لهم مجالاً من الفوضى يُسهّل استراق الخُطى وانتزاع المساحات، ويُلوّح للخصوم ببدائل أكثر إزعاجًا؛ على الأقل لناحية رفضها المناورة واللعب الهادئ، كما يُعيد تقديم الجماعة باعتبارها طرحًا وسيطًا أقل فى الخطورة وأيسر فى التفاوض، صيغة توزيع الأدوار مع شركاء العنف كانت ستستمر من «الإخوان» حتى بعد إحكام قبضتهم على المشهد، على أن يرتفع منسوبها كلَّما رفعوا سقف الغطرسة، لتظل الفزّاعة صالحة لإثارة القلق وكسب المساحات؛ إلى حين اكتمال صيغة «دولة المرشد» التى يتصدّرها الحزب ظاهريًّا؛ وفى الجوهر تحكمها صقور الجماعة.
حتمية الاصطدام بالإرهاب.. ما حدث من إرهاب بعد ثورة 30 يونيو وفض اعتصام رابعة الإرهابى، لم يكن غائبًا عن الصيغ المُحتملة حال استمرارهم فى الحكم، طوال تاريخ الجماعة كان العنف حاضرًا بالتنظيم المُمنهج أو الممارسة الظرفيّة: لعب النظام الخاص الدور بين 1937 و1952، ثم تولّته مجموعات أصغر من «حادث المنشية/ 1954» حتى تنظيم سيد قطب 1965، ثم مجموعات حليفة أو مُنشقّة من «الفنية العسكرية» 1974 حتى اغتيال السادات 1981، وما تلا ذلك من موجات إلى أواخر التسعينيات، أعاد خيرت الشاطر العمل على تنظيم فائض القوة وبناء ماكينة العنف مُجدّدًا من «أوراق سلسبيل/ 1992» إلى ذروة تجلّياتها مع ميليشيات الأزهر 2007، وتولّى محمد كمال الملف تحت لافتة اللجان النوعية، منذ صعوده إلى مكتب الإرشاد فى 2011 حتى مقتله فى مواجهة مع الأجهزة الأمنية 2016، الخلاصة أن ما جرى من قتلٍ وتفجير وإحراق للكنائس وأقسام الشرطة بدءًا من 14 أغسطس 2013 كان تطبيقًا لبرنامج مُجهّز سلفًا، ولولا توافر الخطط والعناصر والسلاح ما كانت موجة الإرهاب.. ليس بمقدور اللاعب أن يخوض المباراة ويُحرز الأهداف من دون تدريبٍ وجاهزية؛ ولأن الجماعة عملت على بناء منظومة الردع الخشن قبل إطاحتها من الحكم، فالمؤكّد أنها كانت بصدد استخدامها؛ حتى لو بقيت على رأس السلطة، هكذا يبدو أن الثورة لعبت دورًا مُهمًّا فى النجاة وإنقاذ الدولة، لأنها كانت مُباغتةً وسريعة وأسبق من تحضيرات الإخوان لإطلاق أذرعهم العنيفة من داخل بنية الدولة، وتحت حماية مواقعهم التنفيذية والتشريعية.
فى «وثائق الكماليّين» ما يُشير إلى مرجعية واضحة، وبرامج عمل استهلكت وقتًا طويلاً فى الإعداد والاختبار، ولاؤهم التالى لنائب المُرشد محمود عزت، ثم هجومهم على محمود حسين ومجموعته، وعلى القائم بعمل المرشد إبراهيم منير وفريقه فى بريطانيا، تُشير كلها إلى توزيع أدوار وصراعات أجنحة، يبدو أن الجماعة عملت على فصل المسارات عن بعضها: الواجهة السياسية فى الحزب والرئاسة، والقطاع المالى لدى يوسف ندا والشاطر وحسن مالك وتابعيهم، والجناح العنيف تحت إدارة كمال وعزت، على أن تلتقى جميعًا تحت لواء مكتب الإرشاد مُمثّلاً فى الواجهة بـ«بديع» وفى العُمق بـ«الشاطر» نفسه، الانقسامات السائدة والمُتنامية منذ القبض على محمود عزت، وصولاً إلى قسمة السلطة الرمزية لإبراهيم منير على اثنين: صلاح عبدالحق فى لندن، ومحمود حسين فى إسطنبول، ونزاع الأجنحة الإعلامية وتفتُّت كتلة النازحين على مراكز دولية بديلة عن بيئتهم المستقرّة منذ عشر سنوات، تحمل كلها إشارات إلى خلل بنيوى داخل التنظيم، ربما يعود إلى الارتباك الناشئ عن نشوة الفوز بكل شىء بعد 2011، ما أثار الطموحات الشخصية، وزرع بذرة الشقاق بين القيادات، صحيح أن ثورة يونيو وما كشفته عن إخفاق الجماعة ساهمت فى استفحال التناقضات، وعجّلت خروجها للعلن، إلا أنها فى المسار الطبيعى كانت ستظهر حتمًا، ولو بعد حين، ما كان يُهدِّد بصراعٍ إخوانى تُدفع إليه الدولة على طريقة «ملوك الطوائف»، ليُوظِّف كل فريق ما يُمسك به من المنظومة الرسمية فى الحرب مع الفرق الأخرى، وهو الأمر الذى كان يمكن أن يقود، لا إلى إفشال الدولة فقط؛ إنما تحويلها إلى دويلات إخوانية تتعارك فيها السلطة مع المال والسلاح، ويستقوى كل منهم بحلفائه فى الداخل أو الخارج، لتُترجم أنشطة الوكالة والتبعية إلى مزيدٍ من القوة والثروة والهيمنة، وانحلال سلطة القانون والمؤسَّسات، بينما يدفع المصريون وحدهم كُلفة النزاعات والمنافع الإخوانية.
ترميم وتحصين تحالف 30 يونيو
إن كان اختراق مؤسَّسات الدولة وتنظيمات السياسة ودوائر النخبة سلوكًا اعتمده حسن البنا منذ لحظته التأسيسية الأولى؛ فإنه لم يكن نزعةً شخصية بقدر ما هو أداة تنظيمية، التسرُّب إلى أروقة الأحزاب، وتكوين فرقة مسرحية لاستقطاب الفنانين وتمرير رسائلهم الرجعية، وكذلك امتلاك أذرع إعلامية خاصة والزج بعناصرهم فى غيرها؛ كلها كانت مداخل نحو هندسة خصومة غير متكافئة، تبدأ من الاطّلاع على أسرار الآخرين، وتمتد حتى مُحاربتهم بالمُنتمين إليهم، وتصوير الحال كما لو أن الجماعة تستند إلى منطق مُقنعٍ حتى للمُناوئين. لم تنقطع تلك العادة على طول الرحلة السوداء، وأطلّت بأوضح صورها سفورًا وبجاحةً بعد يناير 2011، وظلالها حاضرة حتى الآن فى بعض مُرتزقة اليسار واليمين والقوميِّين المُلتحقين بطابورها الخامس فى الخارج، ممّن يعيشون على أموال الجماعة ويتبنَّون خطابها، أو بعض المُتّصلين بها من الداخل باتفاقات وتفاهمات، وأحيانًا لقاءات مُباشرة مشبوهة هنا أو فى نطاقات إقليمية مجاورة. قد لا يتخلّى التنظيم عن لعبة إغراء الأصدقاء و»شراء الولاءات»؛ لكن ثورة 30 يونيو أحدثت شرخًا عميقًا فى تلك الهالة المُخادعة، وبات العوام قادرين على نسبة الوجوه إلى مُشغّليها الفعليّين، مهما كانت الشعارات التى يُطنطنون بها سرًّا وعلانية؛ إذ لا فارق بين ليبرالى أو ماركسى أو يسارى، فأنت مدموغٌ بشبهات الجماعة الإرهابية، طالما كنت تجالسها أو تأكل معها فى طبق واحد.
فى مقابل ذلك، لا يزال تحالف الثورة واعيًا بتفاصيل الجسد وقادرًا على فرز أعضائه التالفة، الحصّة الغالبة من الفضاء السياسى والاجتماعى على موقفهم الراسخ تجاه «الإخوان»، يتجلّى ذلك فى الشارع والإعلام والمُنتديات وعلى المنصَّات الاجتماعية، كما تأكّد بأوضح الصور فى أروقة الحوار الوطنى وداخل مجلس أُمنائه. أجمع المشاركون على أنه لا مكان لهم الآن أو مُستقبلاً، وبدت منصَّة الحوار ورشةَ عمل لترميم «تحالف 30 يونيو»، وإعادة إطلاق حالة الإجماع المُعزَّزة بالتشارك فى مدوّنة الثوابت الوطنية، والتوافق على مُقتضيات اللحظة وشروطها، يُعزى هذا السلوك إلى نُضجٍ سياسى لدى الأغلبية، لكن وقوده قبل ذلك يتّصل بالشارع وموقفه، عندما تعجّلت الجماعة اغتصاب ثمار يناير وتسريع عجلة التمكين، قفزت على الإرادة الشعبية وجاهرت بأنها سقطت فى الصندوق مرّة ولا رأى لأحد بعد ذلك؛ فاستشعر الناخبون أنهم يُساقون لتوقيع «عقد إذعان» قوامه ديمقراطية المرّة الواحدة، وأن الجماعة استحضرتهم إلى لجان التصويت حتى تستبعدهم وتستعبدهم للأبد؛ فتعالت حالة الرفض، وتنامى العزم على فسخ التعاقد، وقتها وجد التنظيم نفسه فى مواجهة الناس مُباشرة، بعدما كان يُدمن إبقاءهم خلف ظهره وقت الاصطدام بالدولة، شوارع «30 يونيو» كانت التعبير الصريح عن الوجه الجديد للصراع، وما يتأسَّس عليه من تموضعٍ مُغاير: إذا اصطدمت بالمنظومة يمكن أن تُطاح إلى الشارع؛ أما إذا اصطدمت بالشارع نفسه فستجد نفسك خارج الوطن بكامله.
إجمالاً.. يمكن القول إن جذور الثورة على الإخوان من عُمر الجماعة نفسها؛ انطلاقًا من أن الدودة فى أصل الشجرة، وما أُخذ عليهم بعد 2011 من مُراوغة وخداع وتدليس وعنفٍ وقفز على الرابطة الوطنية، كلها ركائز راسخة وأعمدة تأسيس ضمن بنية التنظيم، ولم تكن ابتداعًا طارئًا أو انحرافًا عارضًا فى مسارٍ قويم، الفارق أن مناخ الفوضى والتوتّر فى يناير وما بعدها جرَّدهم من النزعة المحافظة؛ فتخلّوا عن التحوُّط وجاهروا بمكنون أجندتهم، دون أن يُغلّفوا أهدافهم بأوراقٍ مُلوّنة كما اعتادوا طوال تاريخهم، بينما كان الشارع أكثر نضجًا وحساسية وقدرةً على قراءة الإشارات واستشعار الخطر، سقط الإخوان فى 2013؛ لكنه سقوط الفكرة نفسها فى منشأها عام 1928، وتلقّى «الشاطر» وعصابة الصقور ضربة الشعب المباشرة، وفى جوهرها كانت طعنةً عميقة فى صدر حسن البنا ومُجايليه، وانكشف إرهاب محمد كمال ومحمود عزت واللجان النوعية وعناصرها؛ لكنه كان فضحًا بأثرٍ رجعى للسندى والهضيبى وقطب ومشهور وعاكف، وطابور طويل من المُجرمين وعُتاة الصلف والعنف وإراقة الدم، التمرُّد والثورة قبل 10 سنوات كانا حسابًا عن صحيفة سوابق تتجاوز ثمانية عقود، والرفض العارم الذى صرفه الإخوان من بنك يونيو كان رصيد «حصَّالة الإجرام» التى ظلّوا يحشونها بكل نقيصةٍ وعار وانحطاط على مدى عمرهم غير النظيف. الجماعة فى التأصيل والعمل كيانٌ يكره الحياة، يُحب الشرَّ ويجد مُتعته فى كسر النفوس وإخضاع الخصوم، وكلها لا تنسجم مع سيكولوجية المصريين المُتسامحة الليِّنة المُحبّة للبهجة، والمُقبلة على الدنيا بكل ما فيها من يُسرٍ وعُسر، حتى اللحظة لم تقرأ الجماعة الرسالة أو تفهمها، والدليل أنها ما تزال تُقيم فى خرائب التنظيم بين عُفونة أفكار البنا ووضاعة مُمارسات الشاطر، تُنتج الكذب وتستهلكه وتصبّ فائض طاقتها فى مجارير التردّى والفتنة والعمالة المكشوفة، تجاوز الشارع جملة الإخوان، وهم ما يزالون محبوسين فى الماضى يمضغون الخطابات الرثّة الساقطة بغباءٍ راديكالى مُقدَّس، ويحق لنا أن نحتفل لا بـ«30 يونيو» العظيمة وحدها؛ إنما بأن مصر كانت رأس الحربة فى تعرية الجماعة وتخليص المنطقة من شرورها، وبأن من خرج عليهم الشعب يتمادون فى السقوط؛ فيرفعون الإجماع الشعبى ضدهم إلى الواجهة من جديد، ويواصلون النفخ فى فُرن الثورة الذى لم ينطفئ بعد؛ جاهلين أنها نارٌ عليهم و«برد وسلام» على مصر والمصريين.