عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في 2 سبتمبر 1945، خرجت أوروبا مكسورة ومنهكة من آثار الدمار والخراب التي خلفتها الحرب، خاصة ألمانيا، التي كان حجم التدمير بها أكبر بكثير من أي دولة أخرى، إلا أن المواطن الألماني نجح بصورة منقطعة النظير في الخروج بوطنه من تحت ركام الحرب، ليبني ألمانيا الجديدة، فلم تكن خطة "مارشال" وحدها والدعم الأمريكي لإعادة الإعمار السبب الأهم في إعادة بناء ألمانيا، بل المواطن ذاته الذي أدرك قيمة العمل وعرف جيداً أهمية بناء بلده مرة أخرى.
تذكرت التجربة الألمانية بكل عظمتها وحكمتها حين طالعت خبر "الجزار"، الذي حفر في العامود الخرساني لقطار المونوريل الجديد ليعلق ذبائح العيد، ومن حوله أنبوبة البوتاجاز وأدوات تقطيع اللحوم وبراميل المياه، في مشهد مخجل يكشف مدى تدني حالة الوعي بالمرافق العامة، التي تعتبر بالأساس ملك للجميع، وتقدم خدمة عامة لكل المواطنين، لكن الأنانية والمصالح الشخصية والفهلوة لا تعرف كل ما سبق!
لو نظرت قليلاً في الصور المنتشرة لجزار المونوريل ستجد أنه يمتلك محل جزارة على بعد خطوات قليلة من العامود الخرساني الذي تعمد تخريبه، ومع ذلك لم يستخدم المحل، وفي ظني أنه فعل هذا حتى يحافظ على نظافته، فقد فكر بمنطق "المحل بتاعنا إنما المونوريل مش بتاعنا"، وهذه طريقة يفكر بها الآلاف، ربما الملايين في مصرنا المحروسة، إلا ما رحم ربي، فالحق أقول ليست لدينا ثقافة أو فهم حقيقي للتعامل مع المرافق العامة، كما نفعل في منازلنا أو ممتلكاتنا الخاصة، وهذا تقصير كبير يعود إلى الأسرة والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام، التي لا تهتم بحملات للتسويق الاجتماعي لرفع الوعي بأهمية مرافق الدولة.
آلاف المحال في القاهرة الكبرى تلقي مخلفاتها في الشوارع يومياً، ولا يحاسبها أحد على الرغم من أن الكاميرات باتت تملأ كل مكان، لكن الفكرة كما ذكرت في السطور السابقة أننا ننظر دائماً إلى الطريق أو الكوبري بأنه "مش بتاع حد"، لا أتصور أن أحداً يبصق داخل شقته إلا في الحمام، لكن في الشوارع يجدها البعض فكرة لا حرج فيها، وهذا بالمناسبة لا يحدث في أي مكان، لن أقول في أوروبا أو أمريكا، ولكن المنطقة العربية على الأقل، فالكل يعرف قيمة المرفق العام وأهمية الحفاظ عليه..
أتذكر قبل نحو 20 عاماً، لم تكن خطوط الموبايل انتشرت كما الحال الآن، فقد كان المواطنون يستخدمون الخط الأرضي أو كبائن الشوارع، المنتشرة حينها بصورة كبيرة في القاهرة الكبرى، كأحد مظاهر التطور الحضاري، وكان استخدامها بالكروت أو العملات المعدنية، لكن مع انتشار المحمول وقلة الاعتماد على هذه الكبائن تم تحطيمها بصورة وحشية، ثم سرقتها من الشوارع، ولم يعد لها أثر حتى للتاريخ أو الذكرى كأحد أشكال التطور في نظم الاتصالات، والسبب الأساسي في هذا غياب الوعي بالمرفق العام وفكرة أنه بلا صاحب ودون رقيب.
الردع يجب أن يكون دائماً جزء من العلاج، وأساس في عودة الانضباط والاحترام للمرافق العامة، فلو لم تكشف صورة جزار المونوريل الواقعة، ما علمنا بتفاصيلها أو تحركنا لرفضها والتنديد بها، فقد ظل هذا الجزار يمارس نفس الفعل على مدار عدة أيام مضت، دون أن يعترضه أحد، أو يحرر مسئول واحد مخالفة ضده، لكن بعدما انكشف الأمر انهالت المخالفات والمحاضر ، لدرجة أن المحل تم إغلاقه وتشميعه بسبب مخالفات لها علاقة بالتراخيص والحي والإشغالات والأمن الصناعي والبيئة، فأين كانت كل تلك الاتهامات قبل أيام أو شهور أو حتى سنوات، خاصة أن محل الجزارة المذكور موجودة في شارع رئيسي بأحد الأحياء الراقية.
في مطلع الأسبوع الماضي أعلن اللواء خالد عبد العال، محافظ القاهرة إلغاء إجازات عمال النظافة والحدائق والنقل العام، بالتزامن مع إجازات عيد الأضحى المبارك، وكان ذلك عبر بيان صحفي واضح من المحافظة، لكن السؤال هنا:" ألم يلحظ أي من هؤلاء العمال الجريمة التي ارتكبها جزار المونوريل، أو حتى الملاحظين في أحياء مدينة نصر؟! خاصة أن الموضوع يتم في شارع رئيسي مكشوف، وفي مكان يمر عليه الآلاف؟ وهذا يقودنا إلى فكرة مهمة هي أن قضية طوارئ العيد في الوزارات والمصالح الحكومية ليست أكثر من شكليات، ولا يتم التحرك أو اتخاذ قرارات إلا بعدما تصبح المشكلة أو القضية مثارة أمام الرأي عام بعد تناولتها في الصحف أو نقلتها صفحات السوشيال ميديا.
أتمنى أن يستحق جزار المونوريل عقوبة رادعة وفق نصوص مواد قانون العقوبات التي تفند جرائم الاتلاف العمدي بالمال العام والمرافق والمنشآت العامة، خاصة أن هناك الكثير من المواد القانونية في هذا الصدد تفرق بين الإتلاف العمدي والإتلاف عن طريق الخطأ، فالأولي تعتبر جناية تصل عقوبتها إلى 3 سنوات، أما الثانية جنحة عقوبتها بين شهر وسنة واحدة أو غرامة مالية، لذلك نأمل أن تصبح هذه القضية أداة ردع عام حتى لا تتكرر مثل هذه الوقائع مرة أخرى.