في الوقت الذي يمثل فيه توسع حلف الناتو، تهديدا صريحا لروسيا، ويعتبر الدافع الأكبر وراء العملية العسكرية التي أطلقتها موسكو منذ أكثر من عام في أوكرانيا، لتعيد مجددًا الصراع بين الشرق والغرب إلى سابق عهده، إبان الحرب الباردة، يبدو التساؤل ملحًا حول ما إذا كان استمرار التوغل الغربي، نحو الشرق، عبر التحالف، الذي يمثل الذراع العسكري لدول المعسكر الغربي، مفيدًا أم أنه بات بمثابة عبء على كاهل القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهو ما بدا في محاولات التنصل الأمريكي من الالتزامات، وسعي واشنطن الدؤوب على إجبار أعضاء الحلف على الالتزام بمساهماتهم المالية، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة يمر بها العالم في اللحظة الراهنة.
وفي الواقع، فإن مسألة توسع "الناتو" شرقًا، كانت بمثابة أولوية قصوى، سواء للولايات المتحدة أو حلفائها في أوروبا الغربية خلال سنوات ما بعد الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو، الذراع العسكري للاتحاد السوفيتي، باعتباره أداة مهمة لتوسيع نطاق النفوذ الأمريكي، ومحاصرة روسيا في مناطقها الجغرافية، وبالتالي تقويض أي طموح لموسكو في العودة، وهو الأمر الذي ساهم فيه الاتحاد الأوروبي، والذي تحول إلى ما يشبه ذراعًا سياسيًا للغرب، بمكن من خلاله تحقيق حالة من التكامل بين الهيمنة السياسية من جانب، والردع العسكري من جانب آخر، وهو ما تحقق جزئيًا خلال حقبة التسعينات وأوائل الألفية، إلا أن الأمور ربما تجاوزت الحد المسموح مؤخرا، مما جعل قضية التوسع الجغرافي للحلف تحديا كبيرا يواجه الغرب في السنوات الماضية.
معضلة التوسع التي تواجه الناتو، تبدو واضحة، ليس فقط فيما يتعلق بانضمام أوكرانيا، وما يترتب عليها من تداعيات كبيرة تدور حول رد فعل روسيا، وإمكانية تورط الحلف في حرب ممتدة زمنيا وجغرافيا، تساهم في تفاقم العديد من الأزمات التي تشهدها أوروبا منذ بدء العملية العسكرية، وإنما أيضا ترتبط بانضمام دول أخرى، على غرار السويد، والتي تقدمت بطلب الانضمام تزامنًا مع فنلندا، إلا أن الأخيرة لاقت قبولًا بينما مازالت الأولى محل دراسة، في ظل خلافات بين الدول الأعضاء، وعلى رأسهم تركيا والمجر، وهو ما يعكس انقسامات تبدو أكبر بكثير، تتجاوز في جوهرها الموقف من السويد، على رأسها جدوى الإمعان في استفزاز موسكو، بل الأكثر من ذلك حول مدى الارتباط بين مفهوم "النفوذ"، بالتوسع عبر الذراع العسكري الموحد، في ضوء العديد من المتغيرات الدولية والاقليمية.
ولعل ثمة متغيرات عدة باتت ترتبط بقضية النفوذ لدى المعسكر الغربي، في ظل خلافات كبيرة، جراء تضارب المصالح بين الولايات المتحدة، والتي تبدو المستفيد الأكبر من حيث التأثير الدولي بفضل قيادتها للتحالف، وأوروبا الغربية، التي ربما وجدت بابًا مفتوحًا للعمل بمزيد من الاستقلالية عن الرعاية الأمريكية عبر الاتحاد الاوروبي، وهو ما بدا في دعوة صريحة تبناها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتشكيل جيش أوروبي موحد، ليثير غضب واشنطن، التي طالما وجدت في التحالف سبيلًا مهمًا للضغط على حلفائها، عبر التلويح المتواتر من قبل الرئيس السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الناتو، حتى يجبرهم على الوفاء بالتزاماتهم تجاهه، وعدم خروجهم عن المدار الذي رسمته بلاده فيما يتعلق بمختلف القضايا الخلافية.
والمتابع لدعوة ماكرون، يجد أنها جاءت كرد مباشر على إعلان أمريكي بالانسحاب من اتفاقية المناخ، والتي تحمل اسم العاصمة الفرنسية باريس، وبالتالي ترتبط في جزء كبير منها بالنفوذ الفرنسي في أحد أخطر القضايا التي تواجه الكوكب بأسره، وهو ما قام به ترامب فعلا، والذي انسحب كذلك من منظمة اليونيسكو، والتي يقع مقرها في العاصمة نفسها، في خطوات تحمل في طياتها محاولة لكبح جماح الطموح الفرنسي، ومن وراءه أوروبا بأسرها، نحو استعادة النفوذ التاريخي للقارة، والذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية.
وبالنظر إلى تلك الوقائع، تبدو معضلة توسع الناتو، لدى العديد من أعضاء التحالف مرتبطة بقضية النفوذ، في ظل الخلاف القائم حاليًا بين دول أوروبا حول أهلية واشنطن لقيادة الغرب في اللحظة الراهنة، ليس فقط في ظل تخليها عن الحلفاء وسياساتها التي بدت مناهضة لهم، فيما يتعلق بالدعم المالي والاقتصادي، وهو ما بدا في فرض التعريفات الجمركية على الواردات القادمة من أوروبا، وإنما أيضا فيما يتعلق بالرؤية الأمريكية القائمة على تصدير الصراع إلى مناطقهم الجغرافية، كما هو الحال في الصراع الحالي في أوكرانيا، بعدما حرصت لعقود على النأي بها بعيدا عن الأزمات المباشرة، وخوض معاركها في مناطق بعيدة عنهم جغرافيا، سواء في الشرق الأوسط أو دول أمريكا اللاتينية.
وهنا تبدو معضلة توسع الناتو، ليست في مجرد ما قد يترتب عليه من تداعيات على الأرض جراء رد الفعل الروسي المحتمل، وإنما يمتد الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، فيما يرتبط بإرهاصات صراع حول النفوذ بين أوروبا والولايات المتحدة، بدت بوادره في العديد من المواقف السابقة.
وهنا يمكننا القول بأن التعقيدات الكبيرة التي باتت تواجه توسع الناتو، تتجاوز الأزمات اللحظية، وعلى رأسها الصراع في أوكرانيا، وإنما تمثل في جوهرها حقيقة مفادها أن العالم على أعتاب مرحلة تتغير فيها الرؤية تجاه المعسكرات بمفهومها التقليدي، لصالح التحول نحو الشراكات المتكافئة، التي يمكنها أن تساهم في دور كافة الشركاء، بعيدا عن مفهوم القيادة الفردية التي هيمنت على الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في الأربعينات من القرن الماضي.