فى ذكرى الاحتفال بثورة 30 يونيو المجيدة، صدر كتاب جديد تحت عنوان "اعتصام المثقفين.. الطريق إلى 30 يونيو"، للمخرج المسرحى الكبير عصام السيد، مقرر لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، وهو كتاب يروى أسرار اعتصام المثقفين ضد وزير الثقافة الإخوانى قبل ثورة 30 يونيو، وتفاصيل الشرارة الأولى للثورة التى أطاحت بحكم جماعة الإخوان الإرهابية من الحكم.
وتبدأ تفاصيل كتاب "عصام السيد" الكاشف عن أزمة الإخوان المسلمين مع المثقفين المصريين، والذى كان بمثابة الشرارة الأول لاندلاع حالة الغضب الشعبى فى مايو 2013، حين أعلن هشام قنديل عن تعديل وزارى، ووقتها كان الظن أن الإخوان سيرضخون لمطالب المعارضة فى ضرورة وجود وزارة ائتلافية تجرى تحت ظلها انتخابات المجلس النيابى الجديد، وبالتالى فإن التعديل الوزارى كان هدفه - حسب هذا الظن - إشراك مجموعة من الوزراء المحسوبين على المعارضة حتى تقبل بالمشاركة فى الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وحسب وقائع الكتاب: لكن جاء التعديل الوزارة مخيبا للآمال، فلم يضم سوى الأهل والعشيرة، وجاء ضمنهم وزير للثقافة يجيد زرع الألغام بنفسه ولنفسه، فبدأت جموع المثقفين والفنانين فى الوقوف ضده وضد مؤامرة "أخونة الدولة"، وتصاعدت حركتهم لتكون رقما صعبا يقاوم هوادة حتى صارت إحدى شرارات "ثورة 30 يونيو"، كل هذه التفاصيل فى كتاب المخرج المسرحى الكبير "عصام السيد"، والذى يروى بين طى صفحاته الأسرار الدقيقة لتلك الأيام الصعبة فى تاريخ مصر، وذلك ما عرضه الكاتب من خلال ما نشرته الصحف والمواقع - توخيا لأقصى درجات الموضوعية - برغم مشاركة كاتبها فيها.
كتاب "عصام السيد" يقدم لنا توثيقا دقيقا عن الحالة المصرية التى سبقت "ثورة 30 يونيو" حيث يقول فى ثنايا التفاصيل: "ضاقت الدنيا بما رحبت على المصريين بعد حكم الإخوان"، فالمصريون أولا: قد اختاروهم فى انتخابات مجلس الشعب على أساس أنهم أناس (بتوع ربنا ومش هيسرقوا) ولكنهم اختاروا مرشحهم فى الرئاسة لأسباب أخرى، أولا نكاية فى الطرف الآخر، الذى صورته بعض وسائل الإعلام أنه ممثل النظام السابق، ثانيا: عن طريق الحشد والمال السياسى، ثالثا: عن طريق منع بعض اللجان المناصرة للخصم من التصويت، بالإضافة إلى اتهامات بالتزوير مازالت محل تحقيق.
ويضيف عصام السيد: بعد اختيار رئيس ينتمى للجماعة تفاءل البعض، ولكن آخرين كان يرون سواد الصورة بداية من لحظة إحاطة مجلس الشعب بمجموعات الردع الإخوانية لمنع وصول أحد إلى المجلس لتقديم طلبات القوى الثورية للمجلس، وانطلاق شعار "الشرعية للمجلس"، فى مقابل شعار "الشرعية للشارع" التى تبناه الإخوان طوال فترة حكم المجلس العسكرى، انتهاء بأن المجلس لم يقدم شيئا للغلابة والمطحونين ولم يحقق أملا واحدا من آمال الثورة منذ انعقاده وحتى صدور قرار حله.
ثم توالت الكوارث - يقول عصام السيد - فى كتابه الكاشف: بعد انتهاء المائة يوم التى وعدنا مرشحهم أنه خلالها سيقضى على مشكلات مصر المزمنة - ولا أدرى من نصحه بتحديد تلك المائة - ولكنه لم يحقق من تلك الوعود شيئا، بل أخلف بقية وعوده التى أطلقها قبيل انتخابه من تعيين نائبين قبطى وامرأة، ومن ضخ 200 مليار دولار فى مشروعات تنموية تنقذ الاقتصاد المصرى، ومن إعادة تشكيل اللجنة التاسيسية، وأنه سيكون رئيسا لكل المصريين، وأنه لا قلم سيقصف فى عهده!
وبخلاف الوعود التى لم تنفذ، أصبحت الكوارث تزادا يوميا للمصريين، بدءا من طوابير الخبز والبنزين والغاز وسقوط ضحايا فى تلك الطوابير، وانقطاع التيار الكهربى المتكرر، وحوادث القطارات، وكثرة ضحايا المظاهرات، حتى آمن المصريون بأن الرئيس الإخوانى "قدمه نحس"، ومضت الأيام والليالى تزيدهم اقتناعا بهذا، فخلال ستة أشهر ونصف وقعت 9 حوادث قطارات و102 حالة وفاة و200 مصاب، بل تداولوا أنباء عن كوارث ضربت البلاد الأجنبية التى زارها، وبعد الإعلان الدستورى الذى أصدره الإخوان فى نوفمبر وحصنوا فيه كل قراراتهم، أدرك المصريون أنهم وقعوا فى الفخ.
ويشير "عصام السيد" فى أكثر من 20 حلقة نشرت على موقع "شهريار النجوم" أن حكم الإخوان لا يقل سوءا عن حكم مبارك أو المجلس العسكرى، ولكن أمرين فاقا كل احتمال، الأول: هو: مذبحة الاتحادية التى أثبتت الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعى مسئولية الجماعة عنها، والثانى: هو: أحداث بورسعيد بعد صدور الحكم فى المذبحة الأولى، والصدام الدامى مع الشرطة، وصولا لخطاب محمد مرسى الذى أصدر فيه قرارا بحظر التجوال فى مدن القناة، فكان رد أهالى مدن القناة هو التفنن فى خرق حظر التجوال.
فى تلك الأثناء يقول "عصام السيد": كانت أخونة مفاصل الدولة تجرى على قدم وساق بداية من عزل النائب العام وتعيين آخر بشكل غير قانونى وانتهاء بتمكين أعضاء الجماعة ومحبيها والعاطفين عليها من جميع المناصب بداية من منصب رئيس الوزراء إلى الوزراء والمحافظين ورؤساء الأحياء، حتى مستوى القيادات الوسيطة كوكيل الوزارة والمدير العام، كانت معظم هذه الأمور تجرى فى أماكن كثيرة فى بر مصر، حتى صارت هناك عداوة بين القضاء والإعلام وضباط الشرطة وبين جهاز الدولة الإخوانى، ولكن الجماعة ظلت بعيدة عن مجال الثقافة والفن، فلم يحاولوا أخونته، ولكن لجأوا الى أساليب أخرى تحد من حركته وتأثيره، ربما تأخروا فى اختراقه لأن المثقفين والفنانين هما الفئة الأعلى صوتا والأكثر تأثيرا محليا وعالميا.
وعرض "عصام السيد" كثيرا من الحقائق الموثقة فى كتابه، أبرزها عدة ألغام تتمثل في: كانت تصريحات وزير الثقافة القادم فى التعديل الوزارى بمثابة ألغام زرعها بنفسه لنفسه، فاتهام الأكاديمية بالفساد لن يطال رئيسها الدكتور سامح مهران وحده، بل أصبحت الأكاديمية كلها فاسدة حسب تصريحات الوزير، وهذا لغم ضخم، لأنه إن لم يستطع إثبات وجود هذا الفساد سينقلب الوضع عليه، بالإضافة إلى تصريحه عن مكتبة الأسرة خلق أزمة ولغما آخر، ودون أن يدرى ملأ طريقه بألغام عدة، لم يضعها فى حسبانه.
انفجرت أولى تلك الألغام - بحسب عصام السيد - بسبب الموضوعات التى طرحها بشكل عاجل "فيلم ومتحف عن الثورة" فحديثه يثبت أنه ليس من المتابعين للأحداث الفنية والثقافية على الساحة ولا يعرف شيئا عنها، فلقد بدأت بالفعل عدة جهات فى توثيق أحداث الثورة منها جهات تتبع وزارة الثقافة نفسها، كما تم إنتاج عدة أفلام عن الثورة بعضها عرض والبعض فى سبيله للعرض، إضافة لإصدار كل من دار الكتب وهيئة الكتاب والثقافة الجماهيرية العديد من الكتب والكتيبات عن الثورة - سواء بشكل مباشر أو غير مباشر - ناهيك عن أن الفيلم والمتحف يوحيان بانتهاء الثورة - من وجهة نظره - عند مرحلة تولى الإخوان للسلطة، وذلك عكس ما كان يحدث على أرض الواقع.
الكتاب يحوى بين طيات صفحاته كثيرا من الحقائق والأسئلة المشروعة حول أخونة الثقافة والفن والمصريين فى لحظة من غياب العقل والبصيرة التى تؤكد عدم فهم الإخوان لطبيعة الشعب المصرى، فضلا عن عدم إدراك حقيقة الجرافيا والتاريخ المصريين فى غيبة من وعيهم، بدليل أنه قبل ذهاب الدكتورة إيناس عبد الدايم لمجلس الشورى لمناقشة ميزانية دار الأوبرا صدر قرار الوزير بإقالتها من منصبها، وفى نفس اليوم وقف عضو لحزب النور فى المجلس مطالبا بإلغاء فن الباليه لأنه فن "عراة" وغير أخلاقى مطالبا بتخفيض ميزانية دار الأوبرا، مما أثبت لجميع الفنانيين والمثقفين - وأيضا لأنصار الدولة المدنية - أنهم فى طريقهم لحقبة مظلمة يحكمها التخلف على يد الإخوان وأنصارهم، وربط كثيرون بين توقيت إقالة عبد الدايم وهجوم التيارات المتأسلمة على الفنون خاصة مع تصريحها بأن وزير الثقافة الإخوانى "علاء عبد العزيز" بقرار إنهاء ندبها ومنعها من حضور الاجتماع، لكى يسب الفن بهذه الطريقة العار على تاريخ مصر وأن الأمر ليس مصادفة،ولذا يوضح كتاب "اعتصام المثقفين.. الطريق إلى 30 يونيو"، أن توافد كثير من نجوم الفن والأدب والسياسة على دار الأوبرا ليس تضامنا فقط مع عبد الدايم ، ولكن دفاعا عن قوة مصر الناعمة وتعبيرا عن الغضب مما آلت إليه مصر تحت حكم الإخوان، وبدأت أولى موجات الغضب بتنظيم العاملين بالأوبرا مظاهرة احتجاجية أمام البوابة الرئيسية، ردد فيها المشاركون شعارات تندد بحكم جماعة الإخوان المسلمين، وتطالب وزير الثقافة بالرحيل، وانضم عدد من الفنانين التشكيليين إلى تلك المظاهرة وذلك لرفض قرار الوزير أيضًا بإقالة الدكتور صلاح المليجى، رئيس قطاع الفنون التشكيلية، بعدما رفض تنفيذ إملاءات الوزير الخاصة بالمعرض العام.
وحرص المشاركون فى المظاهرة على عدم قطع الطريق واصطفوا على جانبيه، وسرعان ما تضامن العديد من المارين بسياراتهم بإصدار أصوات أبواق السيارات للتضامن مع الهتافات المعادية لحكم جماعة الإخوان، ولرئيسهم محمد مرسى، وفى المساء صعد إلى خشبة مسرح الأوبرا المايسترو ناير ناجى فى موعد رفع الستار لبدء عرض أوبرا عايدة، معلنا إلغاء العرض فى حدث غير مسبوق فى تاريخ دار الأوبرا منذ بدء عروضها قبل أكثر من 140 عاما، ورفض جمهور العرض استرداد قيمه التذاكر تضامنا مع فنانى العرض الذين ينتمون إلى مصر وأسبانيا وإيطاليا، وشكر ناجى الجمهور وقال إن الفنانين والعاملين والفنيين يرفضون قرار الوزير بإقاله إيناس عبد الدايم ويرونه جزءا من "خطه ممنهجة لتسييس الثقافة والفنون الرفيعة فى مصر".
ظنى أن هذا الكتاب يمثل شهادة لا يمكن التشكيك فيها، لأنها جاءت من قبل "عصام السيد" أحد شهود الإثبات على ثورة المثقفين، وذلك بحكم مشاركته تلك الأحداث التى كادت تعصف أن بالقوى الناعمة المصرية فى وقت راهن فيه الإخوان على خيالهم المريض تجاه مصر والمصريين، فكما يقول "عصام السيد":
مضت الأحداث فى تصاعدها، ولكن برغم المؤتمرات والبيانات والاحتجاجات والاعتصامات وتعليق الأنشطة، كان من الواضح أنها لن تثمر، ولن تؤد إلى زحزحة الوزير عن منصبه، أو إيقاف خطة أخونة وزارة الثقافة التى بدأت بإبعاد القيادات، برغم أن جانب الاحتجاج اتسع ليشمل إلى جانب الفنانين والكتاب والمثقفين، كل التيارات السياسية المدنية ، فقد طالب نواب التيار المدنى بمجلس الشورى - الذى يضم أحزاب المعارضة وعددا من المستقلين - إقالة وزير الثقافة، وقال النواب خلال مؤتمر صحفى أنهم ذهبوا لدار الأوبرا المصرية للتضامن مع فنانى الأوبرا والمثقفين المعتصمين ضد قرارات وزير الثقافة.
ووثق عصام السيد بقلمه الرشيق الذى يتسم بالحكمة والموضوعية لحظة مهمة فى ذلك الوقت بقوله: كما أعلنت أحزاب: التجمع ومصر الثورة والحزب الديمقراطى الاشتراكى وحزب المصريين الأحرار والوفد تضامنها أيضا مع اعتصام المثقفين أمام وزارة الثقافة بالزمالك، مؤكد أن تلك الأحداث أظهرت أن "الجدع جدع.. والجبان جبان"، فى ظل حشد يعد الأول من نوعه فى تاريخ الثقافة المصرية، التى أثبت قوة شوكتها أمام نظام عرف بالظلامية وعدم الفهم، ومن ثم كان مصير سقوطا مروعا فى ثورة 30 يونيو التى كشفت سوء قصدهم تجاه مصر والمصريين.. فتحية تقدير واحترام للمخرج المسرحى الكبير عصام السيد.