أحيانًا ينتابني السؤال في عصرنا هذا، عصر الكومبيوتر والانترنت والمنصات الإليكترونية، والقصف الإعلامي المكثف الذي استهدف منذ سنوات تطبيع العقول لتقبل مفاهيم الكونية والعولمة، وهي المفاهيم التي تحدث عنها من قبل عالم الاتصالات الكندي مارشال ماكلوهان وصاغها في عبارته الشهيرة "العالم أصبح قرية كونية صغيرة"، السؤال: هل لو أن عمر الشريف ابن هذا العصر، كان حقق نفس نجوميته العالمية التي تيسرت له في زمن أقل صخبًا من هذا؟..
صدق أو لا تصدق أنه لا النجومية ولا العالمية عنيت الكثير لعمر الشريف، أو على الأقل هذا ما انتبه له بعد مشوار طويل من الجهد والدأب والضجيج، جعله واحدًا من أساطير هذا العالم المثير بحكاياته وقصصه وعابريه، ربما في بداياته كان مستنفرًا صوب أحلامه وربما تساءل إلى أي مصير ستأخذه الطرق؟ لكنه بعد عدة خطوات لملم أقدامه وسار، فحسبه أنه يسير، أنه يعيش كما اختار وأراد.
الصدفة رتبت لي أكثر من مرة موعدًا مع عمر الشريف، في كل مرة كنت أندهش حتى جمعت كل تفاصيل الدهشة في كتابي عنه "بطل أيامنا الحلوة"، واختزنت في ذاكرتي ثلاثة ملامح رئيسية، هي مفاتيح شخصية لم تتباهى بما ليس فيها.
(1)
بدلًا من أن أحذو ظل الحائط وأمشي إلى مشاوير أخرى، كنت أجدني في حضور عمر الشريف؛ أغمد نظراتي الحادة وأتحرك ببطء شديد دون أن أدق أية أبواب، حيث كان يستقبلني بتلقائية تمحو كل القصص والروايات عن عصبيته التي قالوا أنها لازمته ليل نهار، عرفت أنه يفضل الصوت الهاديء الذي يستطيع أن يسمعه جيدًا، فالتزمت بإيقاعه وتحدثت بهدوء وبطء وأصغيت له جيدًا وهو يعيد شريط ذكرياته وعبرت معه لقائي الأول به في سلام وكان ذلك عقب تصويره فيلم "حسن ومرقص" (2008)، وفزت بحوار صحفي طويل تم نشره على حلقات في صحيفة الجريدة الكويتية. لقاؤنا الثاني كان في الدورة السادسة والعشرين لمهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط (2010)، حين رأيته يجلس في بهو الفندق الذي أقيمت فيه الفعاليات، فاقتربت منه وأشرت إلى بطلة الفيلم التركي المشارك في المسابقة الرسمية بالمهرجان وقلت له: شايف البنت الحلوة دي، هي ممثلة تركية وعايزة تتصور معاك!
قال: خليها تيجي.
قلت: لا. إنت اللي هتقوم وهناخد لكم مشهد فيديو وهي بتسلم عليك.
ضحك: عايزاني أمثّل!
كاد المشهد أن يتم على خير لولا أن المصور العبقري انضم إلى صفوف المتفرجين ونسي أن يضغط زر تشغيل الكاميرا، فاقتربت من عمر مرة أخرى وأشرت هذه المرة إلى المصور، وقلت: شايف المصور ده، ما صدقش إنه واقف قدام عمر الشريف وراح يتفرج عليك ونسي يشغل الكاميرا.
قال: عايزاني أمثل تاني!
قلت بحذر: آه.
ضحك: ماشي.
انتهينا من المشهد هذه المرة، ثم جلست معه نصف ساعة حكى لي تفاصيل متناثرة من حياته ورحت أفتش معه كيف كبرت نجوميته كحبة سمسم صغيرة تناثرت في أفق سماوي لتصير بستانه المتفرد، تركته بعد أن حصلت على غنيمتي من حوار مسجل وتابعته يفرد ظهره على مقعده هادئاً حتى اقترب منه أحد الصحفيين وبمجرد أن نطق باسمه، صرخ فيه: خلاص.. كدة كفاية النهاردة.
أما في لقائنا الثالث والأخير، فقد حضر لإجراء سهرة تليفزيونية كنت أعدها للفنان سمير صبري بمناسبة رأس السنة (2015)، جاء إلى موقع التصوير بصحبة صديقه الدكتور زاهي حواس، بدا حائرًا، محيّراً كعادته، الألزهايمر استحوذ على ذاكرته، لكن كل ما ومن حوله تدحرج في حضوره المتوّج بهالته، الكل تلهف إلى صورة أو سلام بـ"الإيد".. فلما بدأ سمير صبري ابن مدينته ومدرسته يستعيد معه الذكريات، راح يحكي عن والدته وذكرياته في مدرسته فيكتويا كوليدج.. أبصرته الطفل الصغير الذي يحطم سياج النجومية في دقائق، ذلك الطفل الذي سلم نفسه إلى فضاء السفر وأعاده الحنين إلى أرضه ليقدم برهانه على الانتماء.
لقاء في القاهرة ولقاءان في الإسكندرية لكي يكتمل إيقاعه الـ"كوزموبوليتان"، ابن المدن التي انتصرت للجوهر واحتضنت التعددية، المسافر.. ابن البحر كأنه وُلد على مركب، صوته لم يأت من جذور الأرض؛ بل من تأرجح الريح وجرح في الهوية، من الإسكندرية إلى هوليوود مرورًا بالقاهرة.. جسر مفتوح عبره صاحب العينين الغارقتين في حنان عميق الحزن، ورقة وليونة أخاذة في السحر لم تمنع أبدًا شجاعته واندفاعه صوب رغباته وإن جلبت عليه المشاكل، ابن الاسكندرية مدينته المفتوحة على البحر، طائر الشمال المتطلع بشغف دائم إلى الشمال، جاءت عائلته من لبنان والشام في الشمال وعاشوا في الاسكندرية شمال مصر، وحين استطاع التحليق طار على الفور إلى الشمال الأبعد، من فرنسا ولندن إلى هوليوود حيث كانت نداهة أحلامه تناجيه إلى فضاء أوسع، صار في سمائه نجمًا فارقًا، هاديًا للآخرين الحالمين بجموح مثل جموحه، ومطمعًا للمغامرين وصائدي الأخبار، وذوي المخيلات الواسعة في إثارة الفضائح.
(2)
كنت سألته: هل أحببت فاتن حمامة؟
- نعم.. بطريقة شرقية. زواجي لم يكن زواج حب، بمعنى أنه لم يكن حبًا عاطفيًا، لقد كان زواجًا أساسه الانسجام والمحبة والصداقة، وأي زواج يقوم علي مثل هذه المشاعر يمكن أن ينجح، ولقد نجح زواجي بالفعل لأننا بقينا زوجين لمدة عشر سنوات وخلال هذه السنوات العشر لم أخدعها أبدًا.
- هل كنت سعيدًا؟
- لقد كنت قانعًا.
بالضربة القاضية اختصر عمر الشريف قصة حبه الكبيرة التي لم يزل يحكي عنها الجميع ويتحاكى حتى بعد الموت، وصفها بأنها مجرد علاقة قامت على الانسجام، علاقة ود وفقط ولا حديث عن حب زلزل كيان طرفين وجعلهما يومًا ما يقفان على ضفة التحدي، وحولهما إلى أيقونة للحب في الجغرافيا العربية، فلو كنت تسأل بنات جيلي مثلًا عن فارس الأحلام، لأجابت غالبيتهن: "عمر الشريف ولا رجل إلا عمر" ورحن يصفن عيونه الناعسة حين كان ينادي فاتن حمامة ويقول لها:"بطاطس"؟ كأنه صَنَعَ الحب بما يليق ببطل أيامنا الحلوة الذي لم يبالِ سوى بولعه الخاص، فحظي بالتمجيد العام وهو ينتقل بخفة من الظل إلى الضوء، والفتيات يعجبهن هذا التواطؤ بين الوعد وبين النصيب، كما يعجبهن شامة ترقص في خيلاء تحت العين وفلج صريح بين الأسنان يقول البعض أنه دلالة الحظ السعيد ويقول آخرون أنه علامة حُسن وحشي.
(3)
مولاي حسن مات. وتجمعت نسائه، الزوجة وثلاث بنات، تباطأن قليلًا قبل أن تقودهن صدمة الموت إلى هذيان الذاكرة التي أشرعت أبوابها لاستدعاء المسموح والمسكوت عنه والتخلص من الإرث الاجتماعي الثقيل في علاقتهن بالسلطة الأبوية، مولاي حسن هو الأب الذي اعتاد الجميع حضوره الاستحواذي ولم يستطع أحد أن يحدد ماهية شخصيته، هل هو الأب الحنون؟ نعم هو كذلك، أم الأب القاسي؟ وهو كذلك أيضًا. إنه هذا الخليط من الشراسة والحنين، القوة والرحمة، الإفراط والتوقف، هو بطريرك العائلة في مجاز يليق بسلطته الاستحواذية، وهو بالتأكيد ليس كبطريرك جابرييل جارثيا ماركيز، إنسان كانت سلطته من القوة بحيث سأل ذات يوم كم الساعة الآن، فأجابوه: الساعة التي تريدها سيدي الجنرال، لأنه كان يحوِّر لحظات النهار من أجل حسن سير أعماله، وأيضًا يعدل تواريخ الأعياد المتوجبة كي يتمكن من التطواف من عيد شعبي إلى آخر في سائر أنحاء البلاد، ولا هو كان يكفيه أن يشير ببنانه إلى الأشجار التي ينبغي أن تُثمر والحيوانات التي ينبغي أن تكبر والرجال الذين ينبغي أن ينجحوا ، حتى أنه أمر بإلغاء المطر من الأماكن التي يعيق فيها المحصول وجعله ينزل في الأراضي الجافة.. لكنه كان مولاي حسن الأب الذي بالرغم من موته تلفتت ابنته الكبرى حين أشعلت سيجارتها ثم أطفئتها خوفًا من أن يراها، وراحت الأم تشرف على تفاصيل الطعام المعد للعزاء حتى يكون في المستوى الذي يرضى عنه الزوج الميت، ومولاي حسن هو ذاته عمر الشريف فى واحد من آخر أدواره، الشخصية التي قدمها فى "روك القصبة" إخراج المغربية ليلى المراكشي، فيلم عرف أنه إشارته للوداع (سأشتاق لكم)، بدا حكيمًا إلى درجة كبيرة حين كان يتسلل خلال الأحداث وهو الأب الميت الذي أربك نساء أسرته بهذا الموت الذي لم يعتدن عليه، وبدا ودودًا يسخر من كل التفاصيل، إنشغالهم بطبيعته وشخصيته، استعدادات الجنازة، ثم ينظر إلى الكاميرا ويضحك كأنه يعبر حاجز الموت دون أن خوف لا داع له، هو الأب القوي؛ البطريرك الساخر من الأشياء الزائفة، وهو عمر الشريف الذي حاولوا تنصيبه بطريركًا لجمهورية "الفنانون العالميون"، والبطريرك كلمة يونانية مكونة من شطرين، ترجمتها الحرفية "الأب الرئيس"؛ فكان يسخر كعادته بكلمات بسيطة لكنها تصيب الهدف :"اجتهدوا واتعبوا.. تنجحوا".
(4)
- ماذا تفعل؟
- أبحث عن شيء وقع مني.
- هنا؟
- ربما!
- كأنك التقطت شيئاً!
- لا شيء .. أصلاً أنا لا أمتلك شيئاً، ولا شيء يملكني.
- لكنك عمر الشريف!
- يعني؟
- النجم.
- يقولون ذلك.
تتلاشى الكلمات مع وقْع خطواته الواثقة لرجل ثمانيني متأنق يدلف إلى قاعة صغيرة في فندق كبير حيث انتظرته كاميرات التصوير لتسجل معه سهرة تليفزيونية بمناسبة أعياد رأس السنة، وقف في منتصف القاعة وألقى نظرة عامة على الجميع الذين سارعوا للتصوير معه ثم ابتسم خجلًا وأشار بأنه اكتفى، وحين تحدث جاءت كلماته قليلة ومقتضبة كمن يمرن ذاكرته ألا تندمج في الضياع.
الكل أعلن إنزعاجه لما أصاب عمر الشريف في أواخر العمر، والكل لم يدرك بالضبط كيف كانت الأمور حين لم يكبح الزمن سرعة عجلة النسيان التي اقتحمته بلا تمهل ونثرت ذاكرته على مفارق الطرق، فضاعت التفاصيل والسيرة سدى كأنها لم تكن، وكأن الشيء المغاير في حياته عَبَر خلسة دون أن يبصر نفسه في المرآة ودون أن ينظر إلى أثر. كان ينتقي من البدايات فصول الماضي البعيد ليحكيها.
كان تأمله وصمته إشارته على أن حريته الجديدة في النسيان، فهو اختار من الماضي ما يجلب له لحظة طمأنينة أو سعادة ولم يدقق كثيرًا في الضباب حتى لا يرهق عينيه إن نظر إلى منحنى كاد يومًا أن يكسره، حر هو في إدارة شأنه الشخصي بلا رقيب لذكرياته.. إنه الألزهايمر الذي فرّغ ذاكرته من الزحام ومسح قصصاً كانت قد تجلب له الوجع أو تُهين المزاج الصافي.
صورة رجل كما الأسطورة لم يترجل عن مكانه وحضوره البهي في أعين جماهيره التي كانت تتلمس فرصة أن تحظى بسلام منه إذا رأته صدفة في الشارع يتأبط ذراع صديق، بينما كان عمر بالرغم من إصابته بالمرض يبدو في صمته ونظرة متحلقة من عينيه العميقة كأنه لا يشعر بنقص في الوجود ولا يشتاق إلى عالم يطفو على أمواج من المشاكل المستعصية، ولا يُغريه فعل التكرار أملًا في أن يعيد عصره الذهبي، بل نجا من أن يقسو على نفسه من فخ السؤال: ماذا أفعل في خطوتي القادمة؟
إنه غموض الخريف الذي لا يحتاج إلى الضوء والصخب، ويتقاطع فيه الحزن والفرح كمنعطف آمن للعبور لا يُنتظر منه سوى العبور فقط، فلا متسع في القلب لهمسة أو معركة، ففي هذه اللحظة القاطعة تصبح كل الأشياء سواسية. كان يردد الجميع اسمه ويتعاملون معه كصفة، من هو ميشيل )اسمه الأصلي( أم عمر) اسمه الفني (وما معنى الاثنين الساكنيْن في جسده الذي يضعف يومًا بعض الآخر؟ الكل كان يجلس مع اسمه وهو ذاته نسي لماذا حمل هذا الاسم؟ الكل غير مكترث سوى بالاسم، وعمر الشريف في الغالب كان صامتًا يتأمل فضولهم وربما لاحقه سؤال داخلي: ما شأني أنا بكل ذلك؟ فقد كان في حالة لا تسمح للإغواء أن يتسلل إليه وأن يشغله بما سيكتب التاريخ عنه، فالنسيان قادر أن يمحو رحلة العنفوان.
نفسه الجامحة هدأت ومشت على ما تبقى من العاطفة صوب نقطة لم يدركها، لكنها كانت تشبه البياض حيث مُحيت القصص القديمة وتوابعها، فلم يتذكر الرومانسي الذي سحر قلوب النساء، أو صاحب العقل الذي يحمل النقيضين: المتسامح والغاضب، أو العالمي الذي استسلم لمصيره، اتبع دربه خطوة، خطوتان، وثلاث ولما رأى إنعكاس صورته على من حوله وكيف تأثرت الأماكن بحضوره، لم يكن واقعياً ليصدق هذه الصورة المكسورة على خط يضغط على الذاكرة فتضيق بتفاصيلها.
تساءلوا: هل شعر عمر الشريف بالزهد تجاه الأضواء في أيامه الأخيرة؟ هو السؤال الذي حيّر عمر نفسه قبل أن يجيب: "لم أبحث عن الشهرة، أحببت التمثيل ونجحت فتحققت شهرتي، كنت أتمنى أن يحدث ذلك دون ضوضاء، كل ما أردته التمثيل فقط، ولو عاد بي الزمان إلى الوراء، كان من الممكن جدًا ألا أسافر لتمثيل فيلم "لورانس العرب" وأظل في مصر مع أصدقائي دون الحاجة أن يعرفني الأخر".