قصّ «فيس بوك» شريط الشبكات الاجتماعية؛ رغم أسبقية محاولات هامشية عليه مثل «perfspot» فى 2003 وغيره من أفكار، وقع أغلبها فى إطار الاستهلاك أو الغرائزية.
بحسب الفلسفة والخلفية وحكاية مُؤسِّسه مارك زوكربيرج، كانت الخطوة محاولةً شخصية للتغلُّب على الانطوائية والانعزال وعجز التواصل مع الآخرين، وبدأ فى نطاقٍ اجتماعى ضيِّق ومُتجانس، انطلاقًا من مجتمع جامعة هارفارد وعبر تجربة أوّليَة حملت اسم «Facemach»، جرى تطويرها لاحقًا لقاعدةٍ انطلق منها الشكل المعروف حاليًا، ثمّ توسَّعت لتشمل كولومبيا وستانفورد وييل، ثم كلّ النطاقات الطلابية فى الولايات المتحدة وكندا، ومنها المدارس الثانوية.
تُشير البداية والتدرُّج إلى رغبة جادّة فى تعميق التواصل بين أُناسٍ تجمعهم روابط حقيقية، سواء كانت البيئة التعليمية أو الحيِّز الجغرافى وتقارب الأعمار والاهتمامات؛ ما يعنى أنه كان تجربةً للتشبيك وتوطيد الصلات الناشئة فى العالم المادى، ولم يكن الاتصال غايةً إلا من زاوية ما يعكسه على سيكولوجية البشر ومهاراتهم فى الفضاء العملى المشترك.
ما حدث لاحقًا أن الوسيلة أصبحت غاية، والتجربة انصرفت عن خدمة الاجتماع الحيوى إلى ابتكار أُطرٍ افتراضية بديلة، وتوظيف فُرص الوَصل والتفاعل بين الصِّيَغ الأثيرية للبشر فى عزلهم عن حياتهم الفعلية، أو عن بعضهم البعض فى الواقع المرجعى.
تتابعت التجارب على صورٍ وهياكل متنوّعة؛ لكنها لم تُبد ميلاً تجاه فلسفةٍ مُغايرة، ولم تبتعد عن انحراف «فيس بوك» العفوى أو العمدى ناحية تقطيع الروابط الحقيقية؛ لصالح إنشاء قنوات تخيُّلية لا رصيد لها ولا ظهير من المُستقر فى العلاقات الإنسانية.
كانت الشبكات الناشئة إعلامًا من زاوية العرض الواسع وفُرص الوصول ذات الطابع الجماهيرى، وكانت اجتماعًا لناحية ما فيها من ظلال التعارف والتشبيك الاجتماعى بين ذوات مُتعيَّنة لا مُؤسَّسات أو وسائط وأشكال بثّ، لكن أهم ما فيها أنها حفرت فى تُربة الاتصال المعروفة؛ لتستولد من الأدوات المعهودة وظائف وأدوات غير اعتياديّة.
حتى اللحظة كانت أقصى صور التطوُّر أن نملك قناةً تُتيح اتّصالاً ثنائى الاتجاه، مع ما فى ذلك من تساوى المراكز بين المُرسِل والمُستقبِل، والتقويض الجزئى لسُلطة مُنشئ الرسالة أو حارس البوّابة؛ إنّما فى المنصَّات الرقمية تضخّمت القناة وتفرَّعت إلى شبكةٍ لا نهائية من المسارات، وأصبح المُرسِلون آلافًا وملايين، والمُستقبِلون أيضًا، ولا بوَّابات أصلاً لنسأل عن حُرَّاسها، وكذلك لا مراكز أو سُلطات معنويّة؛ إن بالمعرفة أو الاحتكار.
تسمح تلك الوضعية بمضمارٍ مفتوح للتفاعل والتدريب والتثقيف وترقية القُدرات الاجتماعية، أو هكذا يُفترَض حال إدارتها تحت سقف «التواصُليَّة الخلّاقة»؛ إنّما ما صرنا إليه عَرَضًا أو بقصدٍ مُسبَق، أن المنصَّات فكّكت الروابط وعزّزت الانقسام وأسقطت القيمة؛ فبات الطلبُ على المحتوى أصلاً يتقدَّم فيه الكَمُّ على الكَيف، ويخفُت الاهتمام بمسائل الأصالة والإضافة والإبداع والإتقان. المجتمع الرقمى سُوقٌ على الرصيف، عشوائية مهما صُفّت بضائعها فى خطوطٍ مُنتظمة؛ وأولويّاتها الإتاحة والتعدُّد وتنافسيَّة السعر؛ أما التفرُّد والجودة والاحتياج والضبط فكلُّها أمورٌ ثانوية غير حاكمة، وتقع غالبًا فى هامش النظر لمُخطّطى الملعب ومُشرِّعى قوانين اللعب، وبالتبعية لدى اللاعبين والجمهور!
لا يمكن التطوُّع بتفسير ما تسعى إليه المنصَّات الاجتماعية؛ باستثناء شهوة الرّبح. المُؤكَّد أن لديها فلسفةً وراء ما تنحوه من مُمارسات آنيّة أو بعيدة المدى، والمُتاح فى استقراء انحيازاتها العميقة أن ننظر فيما تحمله المُقدِّمات من إشاراتٍ ونتائج. التقنية ابنةٌ شرعيّة لسياق «ما بعد حداثى» بكل ما ينطوى عليه من سقوط المركزيات والقضايا اليقينيّة الكُبرى، وتفكيك كُتَل الجغرافيا والأيديولوجيا لصالح الفردانية والنسبية ونزع القداسة؛ ولعلها تعمل على ذلك وإن من دون وعىٍ كامل، أو تتقصَّد الوصولَ إلى صيغةٍ عصرية للرؤية الشيوعية فى إطارٍ معرفى واتصالى. فى الحالتين، ستكون المُحصِّلة مُعاداةَ الهياكل الضخمة والأبنية النظامية والعناوين العريضة، وهو ما يتحقَّق بالفعل فى إطار الاستراتيجية المُعلنَة والتحرُّكات التكتيكيّة المُتدرِّجة صعودًا داخل تلك الشبكات.
تذوب فكرة الدولة فى النطاق الرقمى حتى تلك التى تنضبط الشركات التقنية بقوانينها وأعرافها، وتفقد المؤسَّسات سطوتها وقُدراتها التعبويّة، ويتقدَّم الأفراد لا من ناحية أنهم مُستهلكون يفرضون شروطهم؛ إنما كمُنتجين ومُنافسين يتمتّعون بمزايا تفضيلية، وتُحبّهم الخوارزميات وتنحاز إليهم. ربما يكون باعثهم على ذلك القصاص من هيمنة الكيانات الاعتبارية بأثرٍ رجعى، أو الاستجابة لمُعادلةٍ اقتصادية ناشئة ترهن المنفعة بإغراء الأفراد وإرضائهم، أو السعى للتفلُّت من القيود التى يفرضها التنظيم القانونى لتداول المعرفة والسلع والخدمات؛ بعيدًا من تقدُّم أحد التفسيرات أو تضافرها جميعًا مع غيرها؛ فالنتيجة أن المجتمع تُعاد صياغته على قاعدة الشخصنة، وتضاؤل الجميع أمام الكيان الرقمى الكبير، الذى يتوسَّع عُنوةً ليُصبح المجتمع والدولة والقانون والحَكَم المُطلق بين الجميع.
من واقع الخبرة الشخصية فى الإشراف فترة طويلة على حسابات واحدة من أكبر المؤسَّسات الإعلامية العربية. أثبتت التجارب اليومية، والاشتباك مع إملاءات مُتكرِّرة تتّخذ صيغة «عقد الإذعان»، فيما يخص ضوابط النشر ومعايير المجتمع وقيود المحتوى وخوارزميات الظهور والتفاعل، أن كلَّ المنصَّات تتساوى فى موقفها من المُؤسَّسات الكبرى، ولا يخرج سلوكها عن نطاق العداء والمُجابهة ومحاولات التحجيم المُستمرّة، مُقابل تشجيع الحسابات والصفحات الشخصية وتوزيعها بمُعدّلات أكبر. فى مسألة الحقوق والملكية الفكرية تتشدَّد مع الشركات؛ حتى فى مواد حصرية مملوكة لها بالكامل، بينما تتساهل مع الأفراد فى القرصنة والسرقة وانتحال محتوى الآخرين. ترفع سيف الاتهام بالتضليل أو التوجيه أو الدعائية السياسية قمعًا لعلامات تجارية وإعلامية بارزة، ولا تُطبِّق أيًّا من تلك المعايير مع الحسابات الوهمية والصفحات المشبوهة وأنشطة اللجان الإلكترونية شديدة الوضوح إلى درجة الفجاجة. الخُلاصة أنها تتعسَّف مع الحضور الرقمى إذا كان ينوب عن أبنية مُؤسَّسية كبيرة أو فاعلة فى الواقع، وتحابى أى حضورٍ شبيه أو أكثر تجاوزًا وانفلاتًا، طالما كان فرديًّا أو يناور فى تعبيره عن حكومات وأجهزة وكيانات مُخفيًا جسده المادى خلف فردانية رقمية مُدَّعاة. كأنه يتحرَّك بانحيازٍ سياسى أو ثقافى مُضمر، ويسعى إلى إسقاط الخطابات المُتحقِّقة فى الواقع؛ لصالح تأسيس خطابات وهمية بديلة، أو صناعة نُخبٍ جديدة أكثر خفَّة وأقل اتّصالاً بالتوازنات الاجتماعية الحقيقية.
على تلك القاعدة. تُقمع الرسائل السياسية لبعض الأطراف مقابل رواج بدائل ضدّية عنها؛ ليست المشكلة فى نوعية الرسالة بقدر ما هى فى موقف المنصَّة من المُرسِل. وخارج الاستقطاب فقد يُسمَح بتمرير وتسويق مواد تُنتجها جماعات أو أفراد؛ بينما تُحاصَر نتاجات مُشابهة أو مُطابقة لأنها صادرة عن مُؤسَّسات وشركات كبرى. قاد هذا المناخ إلى تصنيف حسابات إعلامية بأنها تابعة لدول وحكومات، بينما تُركت غيرها تذيع ضلالات وخطابات عنف وكراهية دون كبحٍ أو وصمٍ أو تصنيف، وانحصرت أو حُوصِرت رسائل النُّخب من المثقفين والسياسيين والأدباء، لصالح تصعيد نُخبٍ بديلة أكثر هشاشة. أصبحت نماذج «أحمد وزينب» و«حمدى ووفاء» وفتيات تيك توك والدردشات الليلية خفيفة الملابس ومُنتقبات الطبخ وروتين تنظيف المنزل بإيماءات ترقى إلى الإباحية، صورًا جديدة للواجهة الاجتماعية والترفيهية المُرحَّب بها، وحالات مثل ريهام عياد وغيرها إنتاجًا ثقافيًّا مُكرّسًا له رغم ما فيه من شعبوية وتجهيل ورداءة فى الطرح والاستدلال. شُيوع تلك النماذج، ثم دعمها من خلال برامج المكافآت والأرباح، أعادا تعريف مفاهيم الشهرة والنجاح والانتشار والكسب المادى، فترسّخت ضلالات النُّخب الاجتماعية الجديدة ودُفِعَت أعدادٌ لا حصر لها للالتحاق بالرّكب طمعًا فى المنافع، بينما تختنق المُؤسَّسات تحت ضغط القيود القصديّة، والمُنافسة غير العادلة، والاحتكار الفوضوى، وتهرُّب حيتان التكنولوجيا من سداد ضرائب والتزامات عملهم وتربُّحهم فى تلك المجتمعات.
فى مسألة الربح نفسها. رغم ما تُقدّمه المنصَّات من إغراءاتٍ مُشجِّعة للأفراد؛ فإنها تنفرد بتحديد أسعار الإعلان وحصّة الشُّركاء من مُنتجى المحتوى؛ دون مُعادلات تسعير أو نسب شراكة مفهومة وعادلة. ربما يكون الانحياز لشخصنة الحالة نابعًا من سهولة تنظيم البيئة التجارية مع آحادٍ لا ظهير لهم ولا رابط يجمعهم؛ مقابل صعوبة العمل مع مُؤسَّسات لو استجابت الآن اضطرارًا فلا ضامن من تحوُّلها مُستقبلاً إلى المُطالبة بحقوقها الفعلية، مع قُدرتها على الاتّصال وترتيب الصفوف وبناء الجبهات. هذا التصوُّر يردُّنا إلى حالةٍ سابقة على ابتكار التنظيمات والأبنية النقابية وقوانين العمل، ويجعل من ملايين المُستخدمين «عبيد حقلٍ» عُراةً من الحماية أو المظلّة القانونية والإجرائية. ليس هذا سياقًا تتأخَّر فيه الدولة أمام سيولة رقمية يصعب تأطيرها بالجغرافيا أو القانون، إنما يقترب من حالة ما قبل الدولة أصلاً، والارتداد إلى صيغة سابقة على التنظيم الاجتماعى والمُؤسَّسى للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. إنها وضعيّة «استعبادٍ كامل» للأسف؛ حتى لو اتّخذت أشكالاً حديثة، واختار أطرافها أن يُعرّفوها بمفاهيم مُستجلَبة من القاموس الرقمى ومفردات عصر المعلوماتيّة.
باتت الشبكات الاجتماعية غُولاً يستعصى على التقييد، وليس مرغوبًا أصلاً أن تُحبس فى قفصٍ خانق؛ حتى لو كان ذلك مُمكنًا. بالتأكيد لن تكون وضعيّتها الراهنة الصيغةَ النهائية، ولا شك فى أنها ستتطوَّر وتعتمد مساراتٍ وأشكالاً مُغايرة بكثير أو قليل؛ إن فى أنماط الإنتاج وتداول المحتوى وطبيعة التواصل، أو فى تقنيات الضبط والتدقيق وطبيعة الأنشطة المُنتِجة للعوائد. كلُّ المطلوب أن يُوضَع السياق فى إطارٍ مفهوم؛ حتى يكون الجميع، دُولاً ومُؤسَّساتٍ وأفرادًا، قادرين على إدارة علاقاتهم بالفضاء الرقمى والسير المُتّزن على حباله المشدودة. حتى السمّ يمكن أن يكون دواءً ناجعًا، ومهما كانت مضار «السوشيال ميديا» الحالية والمُحتملة؛ فإن فيها ما يُؤمَل أن يُؤسِّس لمرحلةٍ تفاعلية ومعرفية أكثر نُضجًا وفاعلية بين البشر؛ إذ ليس مُنتظرًا أن يُستعاض عن الواقع بالافتراض، ولا أن تحل المنصّات العملاقة محلّ الأبنية الاجتماعية التقليدية.
شركات التقنية تعرف ذلك جيدًا، وتنهب الأرض والزمن من أجل الحفاظ على السَّبق والأفضليّة فى صراعها مع الحياة التقليدية بكل إغراءاتها ومُتعتها؛ وإذا كانت تبتكر من المسارات ما يُعزِّز هيمنتَها ويُمكّنها من انتزاع موقع الدولة والمجتمع والمرجعية القيمية؛ فقد يكون واجبًا الآن البحث عن آليات كفيلة بتوظيف الأدوات نفسها فى صيانة الهويّة وانضباط المجال العام وبناء توازنات عملية خلّاقة، وتطوير سُلطة المعرفة والجدارة؛ من أجل تحويل تلك المنصَّات من حربٍ على المجتمع إلى دفاعٍ عنه، على طريقة «وداونى بالتى كانت هى الداء».