انتهيت مؤخرا من قراءة المجموعة القصصية "خلف الظل بعشر خطوات" للكاتبة رانيا هلال، والمجموعة صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقصصها يحكمها إطار مهم يتعلق بدوران أحداثها فى زمن الوباء "الكورونا"؛ حيث البحث الدائم والسعى المتواصل لاكتشاف الذات والآخر من جديد.
فجأة وجدنا الذات الساردة نفسها، ونحن معها، فى حصار يمنعنا تقريبا من الحياة الاجتماعية، ومن التواصل مع الأهل والأحباب، ومن النزول إلى الشارع، فراحت من الدور الثانى عشر حيث تسكن تتأمل كل شيء، وسعت لاكتشاف كل ما يحيط بها، وكانت البداية فى محاولة اكشاف ذاتها.
فى عشرين قصة، هى عدد قصص المجموعة، انطلقت رانيا هلال فى بناء حياة متصلة منفصلة مثل حلقات مسلسل تليفزيوني، ومثل متوالية قصصية، بطلة واحدة، لكنها متعددة فى الوقت نفسه، لها نفس الحياة الاجتماعية، لكن ليس لها نفس المشاعر ولا نفس المتطلبات، إنها وجوه عشرين لامرأة تسعى لتكتب كى تعيش، كى تقاوم الخوف من المرض والموت.
نعم، لقد أشعرنا وباء كورونا بالعجز، وجعلنا نشك فى تقدمنا المزعوم وقدرتنا على مواجهة كل مجهول، وصار مجرد النجاة من العدوى أمل كل إنسان، وصرنا نعيش يوما بيوم، وحينما أدركت الذات الساردة ذلك، وقفت من مطبخها وبلكونتها تعيد اكتشاف المفاهيم مرة أخرى، فحدثتنا عن (العزلة، والشيخوخة، والموت والحياة، والجنة، والحرية، وعلاقتنا بالله، وعلاقتنا بأطفالنا وذوينا، وعن الذاكرة والذكريات، والروائح والغرائز) وجعلتنا نتنبه للحواس كما لم نفعل من قبل.
راحت بطلة القصص، أو بطلات القصص، حسبما ترى، تنشد البوح وتخاطب الذكريات، فهى الوحيدة التى تمثل حائط صد أمام المستقبل المجهول بمؤشراته المخيبة للآمال، والبوح وحده يملأ الجو المحيط المقبض المزكوم براحة الموت، يملأه بالحياة، بأول قصة حب فى "هدايا الذاكرة المعطوبة"، نعم لقصص الحب غير المكتملة مكان فى المجموعة، وللحظات الانتصار غير المكتملة مكان آخر كما فى قصة "العدو بأقدام خجلة".
إنها أيام رمادية تمر، ليس أمام الخائف من الكورونا سوى الذهاب إلى النوم هروبًا من اليقظة المفزعة، وليس أمام المحبوس فى بيته سوى الكتابة لينجو القلب من الملل، وليس أمام الإنسان سوى أن يحاول فيختلس بعض اللحظات ليخرج من بيته لقضاء مشاوير ضرورية، وفى كل مشوار يعود بحكاية صالحة للكتابة والتأمل.
ومع كل هذا الخلل الذى أصاب الحياة، لا يزال للإنسانية مكان، ولا يزال الإنسان - رغم أن الكلاب امتلكت الشوارع وسيطرت عليها ـ قادرا على التمسك بجانب من حياته القديمة، فالبطلة تبحث عن المتعة القليلة فى شهر رمضان، وسائق التاكسى يساعد حتى النهاية فى "قميص سماوي"، وعاشق قديم يقطع الطريق ليعبر عن حبه الضائع فى "خلف الظل بعشر خطوات".
إن هذه المجموعة القصصية التى دارت جميعها فى زمن الكورونا تجعلنا نرشحها بقوة إلى الباحثين المهتمين بأدبيات "الوباء"، الساعين لتقديم صورة متكاملة عما فعله الإنسان فى زمن الخوف، فهى مجموعة معبرة بامتياز عن الخوف والأمل فى مواجهة المجهول.