ربما تبدو مبادرة قمة "جوار السودان"، والتي أطلقتها الدولة المصرية، هي أحد أهم التحركات الإقليمية، والتي من شأنها التعامل مع الأزمة السودانية، والتي اندلعت في أبريل الماضي، وما ترتب عليها من تداعيات كبيرة، تجلت في أبهى صورها في العديد من مشاهد، لا تقتصر على القتل والدمار الذي لحق ألاف المواطنين، وإنما امتد إلى هرولة أعداد كبيرة إلى المناطق الحدودية، بحثا عن اللجوء إلى دول الجوار، هربا من جحيم الصراع المندلع بالبلاد، وهو ما يعكس إدراك مصر ليس فقط لخطورة الوضع الراهن، في الداخل السوداني، وإنما أيضا حدود الدور الإقليمي، الذي ينبغي القيام به لعلاج الصراع، بحيث يكون التحرك القادم من الخارج محكوم بتقديم حلول لإنهاء الصراع والحد من تداعياته، مع الالتزام بعدم التدخل في الشئون الداخلية للسودان أو التورط في الانحياز لأي طرف دون الأخر.
ولعل طبيعة المبادرة المصرية، والقائمة على إشراك دول "جوار السودان"، بعيدا عن النطاقين الإقليمي أو الدولي الأكثر اتساعا، واللذين اقتصر تمثيلهما في جامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي، باعتبارهما الحاضنتين الإقليميتين للسودان، بمثابة انعكاسا صريحا للعديد من أبعاد الرؤية التي سادت المبادرة الهامة، ربما أبرزها الإيمان المطلق بـ"محدودية" الدور الخارجي في حل الأزمة الداخلية، على اعتبار أن الحل أساسا ينبغي أن يأتي من الداخل، بينما تمثل في جانب أخر، إدراكا صريحا بمعاناة دول الجوار، والتهديدات التي تلاحقهم جراء استمرار الصراع، وهو ما يدفعهم للعمل سويا لتقديم أكبر قدر من المساعدة والدعم لانتشال الخرطوم من براثن الصراع، الذي قد يأكل الأخضر واليابس، حال الفشل في احتواءه في أقرب وقت ممكن.
وفي الواقع، تبدو المبادرة المصرية، بمثابة خارطة جديدة للعمل الإقليمي، فيما يمكننا اعتباره إطارا تنظيميا مؤقتا، يختص بالعمل مع أزمات بعينها، بحيث يتشكل هذا الإطار بناء على بعد جغرافي، يتجسد في مفهوم "الجوار"، وهو ما يمثل أساس المبادرة، بينما يحمل في طياته أبعاد أخرى وإن كانت بدرجة أقل، تعتمد في جزء منها على مدى التأثر بالتداعيات الناجمة عن الأزمة، من جانب، ومقدار التأثير أو النفوذ على أطراف الصراع، ، من جانب أخر، بينما تبقى استمراريته مرهونة بانتهاء الأزمة، وكذلك احتواء تداعياتها سواء في الداخل، أو على المستوى الإقليمي، حيث يمكن للدول أعضاء هذا الإطار الجديد التنسيق فيما بينهم، فيما يتعلق بالمواقف التي يمكن تبنيها في المحافل الدولية الأكبر، سواء على المستوى الإفريقي أو العربي أو الأممي، مما يساهم في ثقل مواقفهم في مواجهة محاولات التدخل الخارجي، والتي تساهم لا محالة في تأجيج حالة الفوضى، بينما تطيل أمد الأزمة وتسعى إلى اتساع رقعتها الجغرافية، وهو ما بدا في التجارب السابقة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقد الماضي إبان "الربيع العربي".
ويعد العمل الإقليمي، في هذا الإطار التنظيمي "المؤقت"، ليس جديدا في إطلاقه، في الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية في السنوات التسع الأخيرة، حيث تمثل المبادرة الأخيرة، والمرتبطة بالأزمة السودانية، أحدث صور العمل الدبلوماسي الذي تبنته القاهرة، والذي اعتمد بصورة أساسية على عقد شراكات متعددة الأطراف مع العديد من دول الإقليم، وأحيانا من خارجة، على غرار الشراكة مع العراق والأردن، والتي انطلق منها شراكات أخرى مع البحرين والإمارات، تنوعت بين التنسيق السياسي والأمني والتعاون الاقتصادي، وغيرها، وكذلك الشراكة مع اليونان وقبرص فيما يتعلق بالتعاون في مجال الغاز الطبيعي، لتتبنى الدولة المصرية نفس النهج، عبر استضافة جميع الأطراف المهتمة بتحقيق الاستقرار في السودان، لعلاج الأزمة، دون تهميش لأي طرف، في ظل نهج يعتمد العمل الجماعي، بعيدا عن سياسة "البحث عن قيادة" منفردة، لم تعد تتواكب مع معطيات المشهد الدولي برمته في اللحظة الراهنة، في ظل حالة التعددية العالمية التي بات العالم على أعتابها.
وهنا يمكننا القول إن قمة "جوار السودان" يمثل تحركا إقليميا مهما من قبل الدولة المصرية، ويعكس إدراكا بأهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به دول الجوار، دون تجاوز حدود الدور الدولي والإقليمي في الأزمة، بحيث لا يمتد إلى التدخل في الشأن الداخلي للسودان، وهو ما يمثل أحد أهم المبادئ التي تتبناها الدولة المصرية في التعامل مع كافة الأزمات الدولية والإقليمية، بينما يمثل بناءً جديدا على الأسس الدبلوماسية التي أرستها مصر طيلة السنوات الماضية في إطار "الجمهورية الجديدة"، والتي اعتمدت نهج العمل الجماعي، بين أعضاء المجتمع الدولي، وهو ما بدا في العديد من المشاهد السابقة، وهو ما يعكس منهجية الرؤية التي تتبناها الدبلوماسية المصرية في التعامل مع كافة المعطيات الدولية والإقليمية الراهنة.