ربما تبقى المنطقة العربية أحد أهم الأولويات لدى الولايات المتحدة، حيث اعتمدت لعقود طويلة من الزمن على حلفائها لتعزيز هيمنتها المطلقة، عبر تأجيج الصراع والتنافس، على مستويين، أولهما على النطاق الاقليمي، وهو ما يبدو في التنافر بين القوى العربية الرئيسية ونظيرتها الإقليمية، على غرار إيران وتركيا، بينما يبقى المستوى الاخر عربيا خالصا، من خلال خلق منافسة بين الدول العربية نفسها من خلال تصعيد بعض القوى على حساب الأخرى، لتتحول المنطقة نحو حلقة مفرغة من الصراع البيني، والذي من شأنه تعزيز الدور الأمريكي، وخدمة مصالح الحليف الإسرائيلي، والذي يتواجد على قمة الأولويات الأمريكية، عبر خلق أزمات جديدة، على غرار الفوضي والإرهاب، والتي بلغت ذروتها في العقد الماضي إبان "الربيع العربي"، وهو ما من شأنه التغطية على القضية الرئيسية في المنطقة، وهي الصراع العربي الإسرائيلي.
الرؤية الأمريكية اعتمدت على حالة "البحث عن صراع" دائم وممتد على نطاق الجغرافيا الإقليمية أو على مستوى الهوية، وبالتالي ارتكزت المساعي الأمريكية، في دبلوماسيتها تجاه الشرق الأوسط، وفي القلب منه المنطقة العربية، على علاقاتها الفردية مع الدول، والتي كانت عرضة للتأرجح والاستبدال مع تغير الظروف، عبر تصعيد بعض الدول على حساب الأخرى، مما يثير حالة الاحتقان في المنطقة، بينما كان النهج الجمعي مستبعدًا من الأجندة التي تبنتها واشنطن خلال السنوات الماضية، وهو ما يفسر ما يمكننا تسميته بـ"الفتور" في العلاقة مع الحاضنة العربية الأم، والمتمثلة في جامعة الدول العربية.
إلا أن الحوار الاستراتيجي الذي أطلقته الولايات المتحدة مع جامعة الدول العربية مؤخرا، بحضور الأمين العام أحمد ابو الغيط، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في واشنطن، يمثل تغييرا جذريا في النهج الأمريكي تجاه المنطقة العربية، في ظل العديد من المعطيات، وأبرزها حالة التوافق الاقليمي، والعربي، التي نجحت القوى العربية الرئيسية في تحقيقها خلال السنوات الأخيرة، عبر تفعيل مبدأ "الشراكة"، وتعزيز المصالح المشتركة، وهو النهج الذي من شأنه تخفيف حدة الصراع البيني، ناهيك عن النجاح منقطع النظير الدين حققته القوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين في تحقيق أكبر قدر من التقارب مع الدول العربية، بل ودخولهم على خط الوساطة في الأزمات القائمة، وهو ما يبدو بوضوح في الدور الذي لعبته بكين في المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، فيما يمثل ضربة قوية للنفوذ الأمريكي في منطقة تمثل أحد أهم أساسات "الهيمنة" الأحادية للولايات المتحدة على العالم منذ التسعينات من القرن الماضي وانهيار الاتحاد السوفيتي.
النهج الصيني والروسي، والذي اعتمد على تقوية العلاقات مع الدول العربية، جنبا إلى جنب مع تعزيز العلاقة مع الجامعة العربية، باعتبارها "بيت العرب"، أبرز العديد من المزايا التي تحظى بها المنظمة الدولية الأعرق في العالم، وأهمها ما تحظى به من بعد "معنوي"، في ظل حقيقة مفادها أنها حتى وإن كانت تقع في نطاق "المنظمات الإقليمية"، والتي تعتمد البعد الجغرافي أساسًا لعضويتها، فإنها في واقع الأمر تمثل ركنًا آخر يتجاوز في جوهره الجغرافيا التقليدية، يتجسد في الهوية والثقافة واللغة والدين، وهي الأمور التي تمثل رابطًا قويًا بين الشعوب، مما يساهم في توجيه بوصلة أنظمتها السياسية، وهو ما يبدو مختلفًا عن باقي المنظمات الاقليمية، التي ترتكز في جوهرها على الحكومات، وهو ما يعكس حالات الخلاف الشعبوي الكبير حول جدوى منظمات أخرى في مناطق مختلفة من العالم، خاصة في أوقات الأزمات، رغم وصولها إلى مستويات تبدو خارقة من الوحدة، على غرار الاتحاد الاوروبي.
وللحقيقة فإن توقيت التقارب بين الولايات المتحدة والجامعة العربية، يبدو ملفتا، خاصة وأنه جاء في ظل خلاف بينهما حول عودة سوريا إلى مقعدها، وهو ما يعكس تغييرا جذريا في النهج الأمريكي في التعامل مع مثل هذه الخلافات، حيث كانت تعتمد الاقصاء في التعامل مع المخالفين لها، وهو ما يمثل انتصارًا مهما للكيان العربي في صورته الجمعية، عبر فرض قراراته السيادية، ناهيك عن كونه اعترافا ضمنيا بأهمية استقطاب تلك المنطقة مع تنامي الصراعات بين الغرب وروسيا، على الأراضي الأوكرانية من جانب، والصراع الأمريكي الصيني من جانب آخر.
وفي الواقع، يبدو موقف الجامعة العربية المتوازن، ونجاحها في تبني خط "الحياد الإيجابي"، تجاه الأزمات الدولية في اللحظة الراهنة، ساهم إلى حد كبير في حالة الاستقطاب التي تشهدها من قبل القوى المتصارعة على قمة النظام الدولي، مما يزيد حالة الزخم حول القضايا العربية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب بها، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.
وهنا يمكننا القول بان الحوار الاستراتيجي الذي أطلقته الولايات المتحدة مع الجامعة العربية، يمثل نقطة جديدة في صالح العرب بالميزان الدولي، حيث يساهم بصورة كبيرة في تحقيق المصالح الجمعية، وتقديم حلول حقيقية للأزمات التي طال أمدها لعقود طويلة من الزمن، ناهيك عن كونه يقدم دليلا دامغا على أهمية العمل الجماعي العربي، وما يمثله "بيت العرب"، من ثقل خاصة مع اقتراب حقبة جديدة، سوف تشهد لا محالة حالة من التعددية، بعيدا عن الهيمنة الاحادية التي سادت العالم طيلة السنوات الماضية.