تريثت لحظة قبل مشاهدتي الفيلم البحريني "في حذائي" إخراج لؤي التتان، شاهدته في الدورة الفائتة لمهرجان أفلام السعودية، فمجرد العنوان استدعى في ذاكرتي أفلامًا أخرى كان الحذاء فيها عنوانًا ومحورًا في الحكاية، بالطبع استحضر العنوان سندريللا وحذائها الشهير كما في الحدوتة القديمة التي تناولتها السينما والدراما عمومًا بتنويعات مختلفة، وجلب صورًا لحذاء أودري هيبورن الأسود في فيلم وجه مضحك "funny face" (1957) إخراج ستانلي دونين، بينما كانت ترقص في الفيلم الموسيقي، إذ بدا الحذاء عنصرًا أساسيًا في الرقصة والأجواء الاستعراضية، وكذلك كان في "البعض يفضلونها شقراء"(1953) إخراج هاوارد هوكس حيث طالعتنا مارلين مونرو مع جين راسل بحذاء يناسب فتيات الاستعراض في صالة رقص، من الأسود إلى الساتان الأحمر المبهر، وهكذا كان أيضًا مع المرموق فريد استر الذي أسعفه جسده اللين وحذائه الإيقاعي على الرقص والانسيابية والتشكيل الحركي بولع كبير، ربما يضاهيه هذا الولع عند الشاب منير )فؤاد المهندس( في "مطاردة غرامية" (1958) إخراج نجدي حافظ،، الولع المرضي وغير الطبيعي بالأحذية النسائية.
لا يشبه "في حذائي" الذي عُرض لأول مرة منذ عامين في الدورة الأولى لمهرجان البحرين السينمائي، هذه الأفلام أو أفلام أخرى مثل الكوميدي الأمريكي "في حذائها" (2005) إخراج كورتس هانسون، عن شقيقتين عاشتا حياة غير مستقرة بعد وفاة والدتهما، أو "Air" (2023) إخراج بن أفليك وبطولته مع مات ديمون وفيولا ديفيس وجيسون بيتمان، والذي يستجلب أجواء الثمانينيات ثم يسرد واحدة من أشهر عمليات استقطاب الرياضيين في التاريخ، عندما وقّعت شركة "نايكي" عقدها مع أسطورة كرة السلة مايكل جوردان، وأصدرت أحذية "آير جوردان"، سرد يتناول السيرة الذاتية والتسويق وإدارة الأعمال وغيرها من تفاصيل أسهمت في تحويل لاعب كرة سلة إلى أيقونة عالمية.. ولا حتى يشبه مواطنه "الحذاء الذي يصغر كل ليلة" للمخرجة البحرينية تقوى محمد جواد، عُرض أيضًا في دورة سابقة من مهرجان أفلام السعودية وحاز على شهادة تقدير من مهرجان البحرين السينمائي في دورته الثانية، ويحكي عن طفل لا ينام خوفًا من أن يصغر عليه حذائه، إنما فيلم لؤي التتان يمثل تجربة خاصة ويقدم في قالب من الفانتازيا حكاية ترصد دورة حياة الحذاء، منذ بداية شرائه ثم ارتدائه إلى تمزيقه، ليذهب من رجل شديد الثراء إلى رجل فقير للغاية، فتتغير حياته وتصبح مختلفة تمامًا، بدرجة تعطي انطباعًا بأن الحذاء ذاته اكتسب خبرة قوية في الحياة البشرية، وهو ما أشار له المخرج في بيانات الفيلم.
الإبداع يحتاج إلى خيال منفتح وجريء، هذا ما حاول المخرج أن يظهره ويقدم في نحو 14 دقيقة نموذجًا يرسم خلاله ملامح سينما بتوجه شبابي، بمعنى امتلاكه لرؤية فيها من عنفوان الخطوات الأولى، عبر تجربة ترتكز على التناقض سواء بين شخوصه أو الطبقات التي ينتمون إليها، كأنه يسعى إلى تحرر ما من ثقل الجسد والمادة وربما من تعب الروح.. الفكرة ذاتية تشكل نواة الحكاية التي تنسحب إلى العام، فالذاتي هنا ليس نصًا قائمًا بحد ذاته وإنما متأثر بما حوله ويحيطه، التجربة غير تقليدية، إنها محاولة الخروج بأفكار جديدة ذات وجهات نظر متعددة، فيها الجانب الإنساني والسخرية المحمولة على جناح الكوميديا، يبدو هذا أسلوب مقصود من لؤي التتان درس الهندسة الميكانيكية في جامعة البحرين قبل توجهه إلى السينما، له تجارب صغيرة سابقة ولكنه في هذا الفيلم يؤكد حضوره برسوخ اللاعب الذي يسعى إلى الاحتراف، يشاركه اللعبة الممثل البحريني المعروف جمعان الرويعي.
الموضوع ذهني ويحتاج الكثير من التركيز، لعل المخرج وجد المتعة في لعبته المعقدة، واستخدامه الأنثروبومورفيّة (Anthropomorphism) أي خلع الصفات والخصائص البشرية على ما هو غير بشري، يعني أنسنة غير الإنسان، تمثيلًا استعاريًا نجده هنا مع الحذاء، فهو يشبه في دورته الإنسان على نحو ما: يحزن ويفرح ويغضب ويرقص ويتريض، يأنس ويستوحش و.. هكذا نراه في صور مختلفة بدوافع متباينة وتفاصيل مدهشة من فرط عاديتها أو من تمثلها بالسلوك الإنساني: أرفف الأحذية، حذاء الرجل الغني المتأنق، الحذاء الأحمر لامرأة البار والرقص، حذاء عامل النظافة، الرياضي وحذائه الأبيض، الأحذية الرياضية، الشبشب البائس للرجل الأشد بؤسًا، الأطفال الحفاة يلعبون كرة القدم، الأحذية على باب المسجد، الآذان في الخلفية، الشارع الموحش والرجل الذي يسقط وبجواره فردة حذائه تكاد تنطق.. تفاصيل كثيرة ترشد إلى أفكار خفية اعتملت داخل دماغ المخرج قبل أن يحولها إلى فيلم مفعم بعلامات لها دلالتها الجمالية والدرامية، دلالات مشغولة بالحياة الإنسانية وما تحتويه من تضارب وتناقضات.
كل لقطة تبرز خصائصها التقنية والفنية المرتبطة بالسرد الذي يحمل تأويلات عدة، وبشكل تتابعي يتحقق فعل الحكي البصري بما يصوغ فيلمًا يقف عند الحد الفاصل بين جماليات الفن السينمائي والطموح في التجديد والتعبير البصري، بشكل يتجاوز المألوف ويكسر المعتاد، كأنه يسعى بطريقته للتحرر من وطأة الأسئلة أو ربما الإجابة عنها بطريقته، دون ثرثرة وإنما بموسيقى مصاحبة وضعها محمد المرباطي فأسهمت في ضخ الحيوية كما عكست إنفعالات عدة.. ويبقى أنه فيلم يمثل نوعًا من التحدي والرغبة في الابتكار، ولعله يكون خطوة على درب أفلام مقبلة تنتظرها السينما البحرينية.