إن كان النظام العالمى القائم يُجابه تحدّيًا وجوديًّا، بات أكثر وضوحًا مع الحرب الروسية الأوكرانية، وبروز الصين بوصفها مُشكلة نهضوية تُؤرّق سيادة الغرب، فإن تناقضات المنظومة أسبق من الانعطافات الأخيرة. الأُسس التى بُنيت عليها تنتمى لمنطق القوة والسبق المعرفى وترتيب المصالح بحسب القدرة على فرضها؛ لكنّ بُناتَها سعوا إلى تحصينها بذخيرة روحيّة تتجاوز انكشاف ثنائية «المُغالبة والسطوة»، فادّعوا أن الهندسة المُستحدَثة لعالم ما بعد الحرب الغربية/ العالمية، بمثابة نُبوّة جديدة لا تحتويها الكنائس ولا يُبشّر بها الباباوات؛ إنما يرفع لواءها السياسيّون بأرواحٍ مُنفتحة ونوايا بيضاء، وما السلاح إلا بخورُ الحالة الطقوسية، ووردة الأمان للمؤمنين، وكأس العذاب الموعودة للجاحدين. كل الاختبارات اللاحقة أسقطت لافتة الأخلاق، بينما صمدت عناوين السلاح؛ ولعل ذلك أكبر تناقضات الأُمميّة المُتسيّدة الآن، وأبرز مداخل نقضها من جمهور المُتمرّدين عليها، أو الساعين لتركيز قاعدة دولية بديلة.
شقّ الغرب طريقه الاستعمارية مُبكّرًا.. لم يكن فى خاطره أن يُزيّف شبق الجغرافيا والثروة بتلاوين أخلاقية؛ ربما لأنه لم يكن يُقيم وزنًا للضحايا ولم يُوضَع أمام التزام التبرير. لاحقًا تشابكت الصراعات بين المُحتلّين أنفسهم؛ فبرزت الحاجة إلى ماكياج مراوغ. ربما حدثت الانتقالة بالحرب الإسبانية الأمريكية، وانتزاع الأخيرة أرخبيل الفلبين. وقتها تلقّف المُبشّرون بالعالم الجديد قصيدة روديارد كبلينج الشهيرة «عبء الرجل الأبيض»؛ ليجعلوها نظرية أخلاقية تتقدّم الممارسة الامبريالية، ومن وقتها سوَّق الغرب أُطروحته الاستعلائية الجشعة تحت عنوان الرسالة والدور التنويرى وإنجاز التحضُّر، لنقل البشر ولو رغمًا عنهم من ظلام الهُويّات الرجعية إلى النور المُتدفّق عن نار المدنية الخشنة. لم يكن لتلك السردية أن تعيش إلا بإسناد القوّة، وعندما اختل ميزان الهيمنة، وتعدَّدت منابع المعرفة والسلاح؛ كان طبيعيًّا أن يطلّ التناقض برأسه، وأن تصطدم الرواية المُتوهّمَة بجدار الواقع القاسى.
ليس مقصودًا ممّا فات، أن حرب روسيا على أوكرانيا رسالة مُضادة، ولا أن بوتين «سبارتاكوس» الذى أُنيط به تحرير عبيد السرديّة الغربية. لا نحن ولا غيرنا معنيّون بتبرير الصراع الأوراسى، كما لم نكن معنيِّين بتقييم سوابق الإمبريالية فى مُحيطنا على ميزان ما أنجزته لصالح الحداثة والتنوير. يبقى الاحتلال جريمةً والحرب سلوكًا بدائيًّا؛ لكن تتعقّد النظرة لهما كلّما أراد طرف أن يُعدِّل التعريفات التى صكَّها بنفسه، وأن يجعل المُشين هنا أداة افتخارٍ هناك. إن أخطر ما يُهدّد القيم أن يخونها أصحابها، أو ينزلقوا بها إلى تناقضٍ فجٍّ لا تصلح بعده للتداول. هنا فقط تتداعى الركائز الأخلاقية التى رفع الغرب بنيانه عليها، وتكتسب المطالبة بمنظومة عالمية جديدة، أكثر تجرُّدًا ومعياريّة، قدرًا كافيًا من الوجاهة والمنطق، على الأقل من ناحية الخصوم، ومن كانوا على الحياد.
كانت المُفارقة الأكبر، عندما أطلقت واشنطن وحليفها الأوروبى موجةً دعائية تُحذّر من «نزاع نووى مُحتمَل»، قد يُفجّره الكرملين فى وجه العالم من الميدان الأوكرانى. كانت محاولةَ تجييشٍ فى نزاع غربى روسى تحت سقف الاحتمال، بينما المرّة الوحيدة التى وقع الهلع النووى تحمل توقيع أمريكا ورئيسها ترومان. تناقض اللحظة يُعيد الذاكرة لتناقضات شبيهة: الغزو الروسى سقطة؛ لكنه فى فيتنام والعراق وأفغانستان كان رسالةً أخلاقية، احتلال أوكرانيا بربرية لكن ما جرى بحق أفريقيا وآسيا كان بردًا وسلامًا وقرون تحضُّر ومُثاقفة، تصدير الأزمة للعالم جريمة تُدين الروس، إنما أوروبا بريئة فى حربين كونيّتين قتلتا وشرّدتا عشرات الملايين وأراقتا دم الاقتصاد عقودًا، وإضمار النوايا ضد كييف خداع، لكن أن تُجَهَّز الخديعة لـ»موسكو» نفسها أو الصين فذلك من حُسن السياسة ومقتضيات إنقاذ العالم.
عندما أنتجت شُعلة النور الأوروبية «نار الفاشية والنازية»، وقفت روسيا الإمبراطورية إلى جوار أطلال الغرب المُتحضّر. ساندت أمريكا بعد ضرب بيرل هاربر، ودعمت تحرير باريس وانتشال لندن من مواجهة صفرية كاسحة، وكانت هدية «الرجل الأبيض» أن يُعاد تركيب مُعادلة الصراع بعد الحرب؛ لتصبح روسيا عدو العالم الجديد. تحمَّلت واشنطن عبء ترميم الأضرار الغربية بخطة مارشال، لا من أجل الحداثة والسلام والقيم، إنما لاستتباع أوروبا فى مواجهة الخصم الشرقى، الذى كان تهديده الوحيد فى «أجندة قيم بديلة»، انطلاقًا من النظرية الماركسية وميراث لينين، بغضّ النظر عن صلاحيتها من عدمها. هكذا لم يكن الأمر تفوّقًا أخلاقيًّا، يفرض ضمن واجباته السعى للشراكة والتكامل وخفض التنازع، إنما كان طموحًا امبراطوريًّا، دينه الهيمنة ورسالته إطاحة المنافسين جميعًا؛ حتى لو كانوا شركاء مُخلصين فى الأمس القريب.
حرّكت أمريكا أطنانًا من القنابل العنقودية لأوكرانيا، بعد سجالات شعاراتية طويلة عن خطورة تلك الذخائر ووجوب مَنعها. المفارقة أنها استخدمتها وغيرها من أسلحة اليورانيوم المُنضب فى كثير من مغامراتها الصراعية السابقة. لم ينحصر التناقض فى طرق صناعة الموت فقط، إنما خالط الحياة أيضًا: صفقة الحبوب التى أنهتها روسيا مُؤخّرًا كانت لفائدة أوروبا لا الدول الفقيرة، والأبواب التى تُوصَد أمام لاجئى أفريقيا والشرق الأوسط فُتحت عن آخرها للأوكرانيين، وسمعنا رسائل عنصرية صريحة من مسؤولين وإعلاميين عن أنهم «ذوو بشرة بيضاء وعيون مُلوّنة وليسوا نازحين تقليديين». حتى عناوين الحرية وحقوق الإنسان تكون جذرية مُتشدّدة مع الجنوب، حتى لو حملت ضمن آثارها إسنادًا للمُتطرّفين والإرهابيين، بينما تُقمَع تظاهرات باريس ولندن ومحيط الكونجرس بذريعة الأمن وسيادة القانون. كأنّ القيم خطاباتٌ وظيفيّة صالحة فى اتجاه واحد، وليست موقفًا مبدئيًّا راسخًا بمعزلٍ عن الظروف والمثيرات. تلك الصيغة البراجماتية مقبولة فى السياسة والإدارة؛ إنما لا علاقة لها بالمُثل وادّعاءات التفوق الأخلاقى، ومن ثمَّ لا تُعرِّى أصحابها وحدهم؛ بل تمس جدارة واتساق البيئة الدولية، التى زُعم طويلا أنها تَصلب طولَها على تلك الأعمدة المُجرَّدة من النوازع والأغراض.
مدير الاستخبارات الأمريكية، ويليام بيرنز، الذى عمل مع هيلارى كلينتون لتدعيم الإخوان فى مواجهة المصريين منذ ثورة يناير وحتى بعد 30 يونيو، قال فى محاضرة مُؤخّرًا أمام لقاء مؤسَّسة ديتشلى السنوى بإنجلترا إن «غزو أوكرانيا جلب العار لروسيا». مفردات الوضاعة والشرف تُناسب النخب الثقافية ورجال الدين؛ لكنها قد تكون نتوءًا فى قواميس السياسيين أحيانًا، لا سيما لو ارتكبوا الأفعال نفسها بفخرٍ؛ ثم اتّخذوها ذريعة للحّطّ من خصومهم. يُمكن للفلاسفة وأصحاب المواقف الإنسانية الصافية أن يقفوا خارج الميدان ويدينوا المُتعاركين جميعًا، لكن لا موثوقية فى شهادة جندى يسيل الدم من سلاحه وأطراف أصابعه. بالمثل يمكن النظر لإعلان مستشار الأمن القومى، جيك سوليفان، قبل عدّة أشهر رفض أمريكا للنظام القائم، رغم أنه صنيعتها الخالصة، وكانت وما تزال أكبر المُتربّحين منه، وبالضرورة فإن بحثها لن يكون عن صيغةٍ جديدة أكثر كفاية وعدلاً؛ ولكن عمّا يستبقى هيمنتها ويصون مصالحها، وفى ذلك أيضا مناورة انتهازية لا علاقة لها بالقيم.
قال «بيرنز» فى محاضرته المشار إليها، إن CIA سعت للتواصل مع الروس وتوفير اتصال آمن عبر الانترنت المظلم، بغرض العمل مع الغاضبين من نظام بوتين، كما أسَّسوا مركز بعثاتٍ يختص بالصين لتجنيد وتدريب المُتحدِّثين بلغة الماندرين. إن كان العمل الاستخباراتى يقبل ذلك، فلا وجاهة للإدانة الأخلاقية لأجهزة موسكو وبكين، أو التجارة بمزاعم الدعائية المُوجّهة عبر منصّات التواصل خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016. الأمن والسياسة وصراعات المصالح تحتمل الازدواجية، لكن تغليف ذلك بشعارات أخلاقية إنما يضر الأخلاق ولا يفيد البراجماتية. قد يُفهَم أن الغرض تحصين هيمنة السلاح والاقتصاد والمعرفة بسلطة معنوية، تحاول إنتاج «مشروعية طوباوية» أسمى من الأدوات الصراعية المُلوّثة، تغسل ذنوبها وتستبقى جذوة الحماس فى نفوس المُوالين، لكن المناورة الخفيفة سرعان ما تسقط مع أول محكٍّ جاد. يمكن أن تكون الأقوال والشعارات مُغريةً لبعض الوقت؛ لكن الأفعال والمواقف العملية أعمق أثرًا فى الفرز والتقييم وإصدار الأحكام.
المآخذ عديدة والتناقضات صادمة. يريد الغرب أن يكون شرطىَّ العالم وزعيمه الروحى وحامل مفاتيح الجنة والنار من دون أعباء. فى أزمة المناخ مثلاً أشعلوا الفتيل ويتهرّبون من إطفائه، ثمّ ينفخون النار باتجاه حقول الفقراء؛ إذ لا يدفعون كُلفة الإصلاح ويستميتون لفرض نموذج تنموى مُستحدَث على الأسواق الناشئة، رغم ما فاتها من حظوظ، وكان انسحاب «ترامب» من اتفاقية باريس ذُروة المجاهرة الوقحة. وفى الأزمة الاقتصادية التمسوا إنقاذ مراكبهم بإغراق الآخرين، فخاضوا منافسةً غير عادلة مع الجنوب بفوائد قياسية واحتكار لبواقى سلاسل الإمداد المُتضرِّرة، وتقليص المساعدات، والتوجيه غير البرىء لمؤسَّسات التمويل الدولية، وما يزال الدولار شريكًا للدول فى نواتجها وفوائض قيمتها، ضمن عملية سطو مفتوحة منذ «بريتون وودز»، لا تُكلّف أصحابها إلا «سنتات» الطباعة لتصبح الورقة الرخيصة مائة دولار. وما يزال الغرب مُؤتلفًا فى جبهة تضع الأغيار جميعًا موضع الخصومة، ولا تعنيه إلا مصالحه المباشرة فى الشقاقات المُعولَمة أو النزاعات البينيّة، وهكذا يُكبِّل دولاً فقيرة بحزام اللجوء، وينتفض لو انفرطت بعض حبَّاته نحو أراضيه، ويُحاصر الصين ثم يشكو لو ردَّت برسوم حمائية مُماثلة أو أوقفت تصدير عنصر أو عنصرين. بات الغرب غارقًا فى النفاق إلى أُذنيه، وفى الانتهازية وتفسُّخ القيم؛ لكنه قابضٌ على أكذوبته الساذجة عن «عبء الرجل الأبيض» بعدما لم تعد مُقنعةً لأبيض ولا لأسود.
استلفت الولايات المتحدة لصيغة «الهيمنة الأنجلوساكسونية» ثمانية عقودٍ خارج القبر. ربما كان موتها الفعلى مع الحرب الكونية الأولى، ثم سقوط عصبة الأمم واندلاع الحرب الثانية. وقتها بدت واشنطن أقرب إلى سرديّة القيم؛ إذ تأخَّرت فى الالتحاق بموكب الدم حتى دفعها الجيش الأحمر اليابانى لذلك بقسوة، ومن وقتها وجدت أن ميراث أوروبا يصلح لإعادة إنتاج حقبة سلطوية جديدة. انتشلت الفكرة من الوحل، وغسلتها، وتلافت بعض أخطائها فى «الأُمم المتحدة» وأجهزتها؛ لكنها حافظت على النزعة الأخلاقية شعارًا، وعلى انتهاكها الدائم ممارسةً يوميّةً راسخة. عندما سلَّحت الإسلاميين لصدّ السوفييت، أو دعمتهم فى الشرق الأوسط، أو أجازت لنفسها نهب المنافع بالمراوغة أو بقوّة السلاح والعقوبات، كانت تُطلق الرصاص على قدميها، وتُبرّر استباقيًّا ما قد تصطدم به مع أيّة قوة ناشئة ذات طموح. القوى الصاعدة يُمكن أن تكون مزعجة، والمُتداعية أكثر إزعاجًا: الصين تنِّين جامح يُثير القلق بصعوده، وروسيا قيصرٌ عجوز لن يكون سقوطه هادئًا أو دون جَلَبة، وليس من الحكمة أن يُلصَق ظهره بالجدار أو يُجبَر على رُزمة حلولٍ صفريّة. أمريكا بين نارين: هى صاعدةٌ أمام روسيا، ومُتراجعة إزاء الصين، وكما أنها مُزعجةٌ للطرفين، فهى عُرضة للانزعاج بسببهما أيضًا؛ وخطاب القيم فى محنة: لا خيار تصفية الصراع بالحرب مقبول، ولا تصفيره بالاقتصاد والتنمية مقبول. هنا يُصبح الأمر نفاقًا خالصًا، ويُهدِّد بسقوطٍ مُدوٍّ لمُدوَّنة الاستعلاء وترسانة شعارات التفوُّق الأخلاقى.
تبدو كل الحسابات خاسرة. التلويح بالقوة لم يعد رادعًا، والعقوبات هشَّة، واستنزاف العالم بات مكشوفًا ومحلَّ انتقاد، وعُدَّة القِيَم فقدت الوجاهة والإقناع. الخروج على النظام العالمى لم يعد محصورًا فى «أوراسيا» وبحر الصين، إذ هو موضوع رائج فى الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، إن بالتصريح أو بالبحث عن مساراتٍ بديلة، وتنويع للعلاقات وانفتاح على لاعبين جُدد. المطالبون بإعادة هيكلة المنظومة الدولية تتعالى أصواتهم، وتنمو قدرتهم على الكلام والتمرُّد واجتراح البدائل عمليًّا، والغرب يستميت لاستبقاء صيغته القديمة، أو استيلاد نسخة مُحدَّثة منها؛ لكن المخرج النهائى مهما طال الوقت سيُفضى إلى ورشةٍ مُوسَّعة تبتكر هندسةً جامعة، أو هندسات صغيرة مُتضافرة، تُعيد تعريف العلاقة بالغرب وتُحدِّد نطاقاته المقبولة فى اللعبة، وفاقًا أو شِقاقًا، وإن كانت اليقظة الآخذة فى التنامى وقودها نُضج الصغار واكتمال نموِّهم ورغبتهم فى نزَع الطوق والخروج من الأَسْر؛ فإن الحافز الأكبر كان فى قَضْم الغرب نفسه لأطرافه، عندما خان منظومة قِيَمه مرارًا، واستمرأ الازدواجية والنفاق. سيحفظ العالم جَميل ما أسدته أوروبا وأمريكا لمسيرة البشر من معرفةٍ وتراكم حضارى؛ لكنه لن يعيش طويلاً تحت الوصاية القديمة، ولن يشترى مُجدّدًا «خُردة القيم» التى أفسدها أصحابها بطول التخزين وسوء الاستخدام.