لم يقتصر الرهان على المعسكر "النامي"، على القوى الدولية الصاعدة، والساعية إلى المزاحمة على قمة النظام العالمي، أو القوى الإقليمية، التي تمكنت من توسيع نطاق تأثيرها الجغرافي، وإنما امتدت إلى الدول المتقدمة، والتي باتت في حاجة ملحة إلى استقطاب هذا القطاع الهام من دول العالم، في ظل ما يحظى به من تأثير من جانب، بالإضافة إلى احتداد وتيرة التنافس الدولي، من جانب آخر، ناهيك عن عودة زمن الصراعات جنبا إلى جنب مع اندلاع أزمات تبدو مستحدثة في الآونة الأخيرة، لا يمكن لقوى واحدة، مهما بلغت إمكاناتها التعامل معها بمفردها، على غرار التغير المناخي، وما تركته تلك الأوضاع الجديدة من تداعيات كبيرة طالت الجميع، دون استثناء، من جانب ثالث.
ولعل إرهاصات الرهان الجديد الذي باتت تتبناه الدول المتقدمة، قد بدت في العديد من المشاهد الدولية، التي هيمنت على الساحة في الآونة الأخيرة، ربما أبرزها تخصيص ملياري دولار من قبل الولايات المتحدة للدول النامية، لمجابهة التغيرات المناخية وتداعياتها، بينما كان المؤتمر الذي عقدته باريس، بعنوان "من أجل ميثاق مالي عالمي جديد"، لتمكين دول المعسكر ذاته من مكافحة الفقر، والتغلب على تحديات المناخ، وجها آخر من وجوه التغيير الكبير في النهج الذي تتبناه الدول المتقدمة في التعامل مع أزمات تلك الرقعة الواسعة والمترامية الأطراف من كوكب الأرض، في إطار محاولات استقطابها، في ظل تغييرات كبيرة في الميزان الدولي، أضفى مساحة ملموسة من المرونة أمامها، تمكنها من المناورة للدفاع عن مصالحها، أو بالأحرى حقوقها المهدرة منذ عقود طويلة من الزمن.
ويعد التغيير الكبير في مواقف الدول المتقدمة، تجاه "المعسكر النامي"، انعكاسا صريحا لحالة المنافسة الدولية القائمة، على مسارين، أولهما تجاه منافسيهم التقليديين، على غرار الصين، والتي قطعت شوطا كبيرا في هذا الإطار، كما أسلفنا في مقال سابق، أو روسيا، والتي حرصت على استقطاب تلك الفئة، والتي تمثل في واقع الأمر أغلبية كبيرة في المجتمع الدولي، عبر الحديث المتواتر من قبل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حول أولويتهم فيما يتعلق بتصدير الحبوب، بالإضافة إلى تأكيده على استعداد موسكو لنقل 300 ألف طن من أسمدتها إلى الدول النامية دون مقابل، بالإضافة إلى التوجه الروسي نحو إعفاء بعض الدول من الديون، وغيرها، وهي التحركات التي ربما لاقت قبولا كبيرا في العديد من مناطق العالم، خاصة مع تنامي الشعور بالدور الكبير الذي لعبته القوى الكبرى في تجريف مقدراتهم، دون مساهمة حقيقية في حل أزماتهم، وهو ما بدا بوضوح تزامنا مع بزوغ أزمة المناخ، عندما رفضت الدول الصناعية الكبرى، تقديم التزامات قوية من شأنها احتواء ظاهرة التغير المناخي، وهو ما يعكس تنصلها من مسؤوليتها تجاه الأوضاع المناخية وما آلت إليه من تداعيات كبيرة، ربما باتت مؤخرا تمثل تهديدا للجميع.
وأما المسار الآخر، فيتجسد في المنافسة التي تبدو محتدمة بين الدول المتقدمة نفسها، في ظل طموحات، في نفوذ أكبر في الحقبة الدولية الجديدة، ومخاوف جراء ما سوف تؤول إليه الأوضاع الراهنة، من تداعيات في ظل احتدام المعركة بين الغرب وروسيا، وصعود الصين الكبير، ناهيك عن حالة التفكك الكبير فيما يسمى بـ"المعسكر الغربي"، جراء التخلي الأمريكي الصريح وغير المسبوق عن الحلفاء، إلى حد تصدير الصراع إلى مناطقهم الجغرافية، كما هو الحال على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يمثل تهديدا خطيرا لأوروبا، يضاف إلى سلسلة من الإجراءات الأخرى التي اتخذتها الولايات المتحدة، خلال السنوات الماضية، والتي استهدفت القارة العجوز، وأبرزها استهداف الوحدة الأوروبية، عبر دعم خروج بريطانيا من حالة الاتحاد وفرض التعريفات الجمركية على الواردات القادمة منها، إبان عهد الإدارة الأمريكية السابقة.
محاولات الاسترضاء من قبل العالم المتقدم، لـ"المعسكر النامي"، لم تقتصر بأي حال من الأحوال على المزايا الاقتصادية، ومحاولة علاج الأزمات، وإنما شهدت كذلك تغييرا في النهج السياسي العام، عبر تخفيف واضح في حدة الحديث عن العديد من القضايا الخلافية، والتقليل من التدخل في الشؤون الداخلية لدولهم، وذلك بعدما أثبت النهج الصيني – الروسي نجاعته في هذا الإطار، مما ساهم في تصاعد دورهما إلى حد كبير فيما يتعلق بالقضايا المحورية، والتي كانت تمثل أساسا للنفوذ الغربي في العديد من مناطق العالم، وهو ما يبدو في صعودهما الكبير في منطقة الشرق الأوسط، من بوابة العديد من القضايا على غرار الإرهاب، والذي تمكنت موسكو من تحقيق نجاح كبير في احتواء التهديد الكبير الذي مثله في سوريا، ودعمها للعراق في هذا الملف، بينما قامت بكين بدور هام في تحقيق اتفاق تاريخي من شأنه احتواء الأزمة طويلة الأمد بين المملكة العربية السعودية وإيران.
وهنا يمكننا القول بأن الرهان على "المعسكر النامي"، يحمل في طياته حسابات عدة بالنسبة لدول العالم المتقدم، في ظل العديد من القضايا المتداخلة والمتشابكة، والتي تحمل في جزء منها محاولة استقطاب، في ظل الصراع القائم في أوكرانيا، بينما في جزء آخر، تمثل مسعى لتعزيز نفوذها الذي تراجع بصورة كبيرة في العديد من مناطق العالم، في حين تأتي في جزء ثالث، في إطار إرهاصات منافسة قد تصل إلى حد الصراع بين حلفاء "المعسكر الغربي" جراء حالة التفكك التي يشهده في اللحظة الراهنة.