الأمور المفصليّة الجادة لا يصحّ أن تكون عُرضةً للمُكايدة. عندما رسم الحوار الوطنى حدود حركته تحت سقف ميثاقية 30 يونيو، قاطعًا بأنه لا مكان للإخوان وجماعات العنف على الطاولة؛ لم يكن يستهلك محصولاً شعاراتيًّا أو يُغازل الدولة/ الحُكم؛ إنما كان يستدعى اللحظة الائتلافية التى جمعتهم بالشارع سابقًا، وانبنت عليها مشهدية الثورة وشرعية البقاء فى النطاق السياسى. أمّا ارتداد البعض عن ذلك؛ فإنه لا يكشف عن مُمارسة انتهازية فقط، بقدر ما يفرز الاصطفافات الوطنية ويُعيد تصفيتها مُجدّدًا.. إن كل خطوة رمادية على طريق الإخوان، أو تقاعس عن المُجاهرة بالقطيعة الصارمة معها، قد يعنى ضمن احتمالاته أن بعض الأطراف يستعيرون لافتة الجماعة لإنتاج لعبة «عضّ أصابع»، وتحصيل مكاسب خارج القوانين الجديدة، أو يُعيدون التموضع بإرادتهم خارج الحالة التوافقية، بما فيها من تقابلات حادّة لا تقبل المواءمة: الإرهاب والسياسة، والثورة والرجعية، واستقلال الدولة مقابل العمالة والاستتباع.
عشر سنوات منذ 30 يونيو، ظلّ الشارع مُحافظًا فيها على ثوابته تجاه الحظيرة الإخوانية، بالمُنتمين المُباشرين لها أو المُلتحقين مصلحيًّا وتكتيكيًّا، بينما ترواحت مواقف بعض التيارات بين التزام الخط العام للبيئة الجديدة، والانزلاق من وقت لآخر باتجاه أنماط أداء كأنها تُناور الدولة أو تُلوّح للجماعة، وفى الحالين هى أقرب لإمساك العصا من المنتصف. لعلّ قدرًا من الارتباك أنشأته مُمارسات فردية، قد يقول قائل إنها تخص أصحابها؛ لكن رخاوة الطبقة السياسية، فى صيغتها الحزبية أو الائتلافية، قد تفتح الباب لافتراضات تتجاوز الشخصنة، ولأن الأخيرة لا تعنينا؛ فلن تكون الأسماء محور الاشتباك، إنما المواقف وامتداداتها، وما تحمله من إشارات على النُّخب ودوائر عملها. المدخل لا ينطلق أيضًا من مخافة تسلُّل الإخوان للمشهد، فتلك نقطة خارج السياق، وضمانتها قائمة فى القانون وثوابت المُؤسَّسات، لكن المُهم ما تنطوى عليه ممارسات «كسر الإجماع» وألاعيب توزيع الأدوار، من مساسٍ صريح بسلامة المرتكزات الأيديولوجية لدى المدنيين، ومأساة التردّى لتكرار تجربة مُلاعبة الأصولية، على طريقة الاشتراكيين الثوريين: «مع الإسلاميين أحيانًا، ضد الدولة دائمًا».
كل ما فات مُقدّمة لتأطير حالة السيولة والتناقض المُتنامية فى أروقة بعض القوى. قبل شهور التقى أحد القوميِّين الساعين لدور سياسى مُستقبلى واحدًا من وكلاء الإخوان فى بيروت، وأنكر اللقاء، قبل أن يسرد «المندوب الأداة» تفاصيله، ويقول إنه قابل آخرين من بقية الفصائل فى باريس وبروكسل واسطنبول. قبلها وبعدها ظهر أحد الناشطين فى دوائر الليبرالية عشرات المرَّات على قنوات مملوكة للإخوان أو مُتّصلة بهم اتصالاً وثيقًا. تلك من الروابط المُعلنة التى يستحيل نفيها؛ ولعل ما فى الكواليس و«تحت الطاولة» أكبر وأعمق؛ لا سيّما لو سلَّمنا بما يتعمَّد التنظيم تسريبه كل حين عن لقاءات واتصالات وتفاهمات لا تنقطع مع بعض التيارات، أو تصوّرنا أن أدواته المرافقة بالخارج من القوميِّين والليبراليين قد تلعب أدوارًا فى تنشيط العلاقة بجذورها الاجتماعية وأصدقائها القدامى فى الداخل. بينما مقابل ذلك تضخ التيارات نفسها مُمثِّلين فى الحوار الوطنى وغيره، يُؤكّدون دائمًا انضواءهم تحت سقف المُدوَّنة الوطنية الحاملة لانحيازات «30 يونيو»، ويرفضون الإخوان مع الرافضين من بقيّة الهياكل الحزبية والسياسية.
ربما يكون مفهومًا، ولو كان مرفوضًا، أن مناخ 2011 فتح بابًا عريضًا لتشبيك الإخوان مع عديد الاتجاهات، وأن ما جمعهم من ملفّات مُعلَنة، أو تفاهمات رمادية مُضمَرة، لم يكن ميسورًا تصفيته فى شهور النزاع التالية وما بعدها. كان التنظيم مُتغلغلاً فى البيئة السياسية ومكوِّنات المجتمع المدنى، وترجم ذلك باختراقات للأحزاب وهيمنة على النقابات، وافتتح تبادل العباءات بتحالفات انتخابية فى 1984 و1987، وباستئجار صحف ولافتات حزبية، ثم جاء الانكشاف الواسع بعد يناير: فى ائتلاف شباب الثورة، وتحالف الحرية والعدالة لابتلاع مجلس الشعب، ومؤتمر فيرمونت، ورأينا رموز الناصرية يعتذرون لأحفاد البنا والهضيبى عن ميراث الستينيات. هذا التخالط العميق كان عصيًّا على الفضِّ الكامل دفعةً واحدة، وحتى خطوة «جبهة الإنقاذ» كانت أقرب لتطوير قاعدة اللعب؛ لا إنهاء المباراة ومُغادرة الملعب، إنما جاء التطوُّر الحاد عندما سبق الشارع نُخبتَه، وفرض شروطًا لم يكن السياسيون فى غالبيتهم يسعون إليها. هل بقى فى القلب رصيد؟ وهل يحمل البعض حنينًا إلى المنيل والمقطم؟ ربما تكون الموجة الشعبية والرسمية على خطٍّ آخر، ما يردع المُستعدِّين للعودة إلى عصمة الجماعة عن المُغامرة بالتجربة، وأى نفى لتلك الافتراضات ينبغى أن يكون جامعًا، صُلبًا، ولا تشوبه اختراقات خطابية أو شخصانية.
فى الوجه القانونى.. الإخوان جماعة إرهابية قولاً وعملاً، بموجب قرار رئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوى فى ديسمبر 2013، ثم حكم «القاهرة للأمور المستعجلة» بالقضية 3343 لسنة 2013، وقرار رئيس الوزراء إبراهيم محلب فى أبريل 2014، وأحكام جنايات القاهرة بإدراجها على قوائم الإرهاب نحو خمس مرات، وما يترافق من قوائم إرهابيين شملت عشرات الأعضاء والمتعاونين. أما ما يسبق القانون نفسه فقد رآه المصريون جميعًا، بدءًا من مُمارسات سياسية مُنحطَّة واستعلائية، وتديين فجٍّ للمجال العام، وتكفيرٍ وإرهاب معنوى ومادى وإثارة للطائفية، ثم اختطاف الدولة واحتكار السلطة واحتقار الإرادة الشعبية، وموجة دمٍ هادرة بعض فض «اعتصام رابعة» المُسلَّح، وما طال الجميع من تخويف وتفجير واغتيالات وحرق للكنائس والمنشآت. البلتاجى والعريان والشاطر وبديع ومحمود عزت وأبو إسماعيل وصفوت حجازى خلعوا براقع الحياء والمُهادنة وارتدوا الدروع وأطلقوا نفير الحرب، ومحمد كمال ويحيى موسى وأشرف عبدالغفار وحركات «حسم ولواء الثورة والعقاب الثورى» كانوا إرهابيين كاملى العُدَّة والقصد والإجرام، لم يعد محلَّ شكٍّ أن «الإخوان» طوَّرت خصومتها من الأحزاب أو حركة تمرُّد والجيش والسلطة، لتصبح مع الدولة جسدًا وروحًا وفلسفةً وعنوان تعايش، وهو ما اكتمل بالالتحاق بأجهزة وقوى خارجية والانخراط فى عمالة واضحة؛ ومن ثمَّ فإن أيّة لُيونة فى النظر إليها أو التقارب معها هى من باب التصالح مع الإرهاب والخيانة، ومساعى تسويغهما، والوكالة عن الأجندة التى تحملها، وكلها قد تُوجب الصفة الإجرامية نفسها للمُتعاونين، وتضعهم تحت طائلة العقوبة المُقرَّرة للفاعل الأصلى.
بحسب قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015؛ كل كيانٍ من ثلاثة أشخاص على الأقل، يرتكب الأنشطة المنصوص عليها، تثبت عليه صفة الجماعة الإرهابية سواء كان داخل البلاد أو خارجها، والإرهابى كل من يرتكب أو يُخطّط أو يُحرّض أو يُهدِّد أو يشترك ولو بالعضوية، والأموال الإرهابية تشمل كل الأصول المادية والافتراضية والموارد الاقتصادية. وعندما يظهر أحد اللاعبين السياسيين على قناة يملكها التنظيم ويُموّلها، ومع مُذيعٍ حرَّض صراحةً على قتل الضباط وإحراق البلاد، وتحت لافتةٍ عدائية ثابتةٍ بحق الوسيلة وخطابها ومُشغّليها؛ فإنه للأسف يضع نفسه تحت سيف القانون؛ وحتى لو سمح المناخ الانفتاحى بمرور السقطة، فإن الدينونة الأخلاقية ستظل قائمة؛ إذ ينطوى الأمر على إسنادٍ ودعم وترويج وشراكة مع نافذة إرهابية، وعلى إهانة للدم والشعب وثورته، وكسرٍ لإلزامية مبادئ 30 يونيو، لا سيما أن الشخص/ التيار، يضع قدمه الثانية فى مُربّع التحالف وداخل دوائر الحوار.
كان السياسى الذى التقى وكيل الإخوان فى بيروت عضوًا بالحركة المدنية، واجتمع به أعضاؤها بعد عودته ولم يُدينوا السقطة؛ رغم أن الحركة التزمت سقف 30 يونيو بتعبير مُمثّليها فى الحوار الوطنى. والضيف الدائم على قنوات التنظيم يتولّى أرفع منصب تنسيقى فى تيّارٍ ليبرالى وليد، وأحزابه الأربعة ضمن هيكل الحوار وجاهرت بالثوابت نفسها، وعندما التقت على طاولة التشكُّل كان للشخص المُشار إليه أرشيف طويل مع الجماعة الإرهابية؛ فاختارته قياديًّا ولم تُصوّب مُمارساته أو تُدن لقاءاته السابقة واللاحقة. إن كانت التجاوزات وتبعاتها شخصية وتقع على عاتق صاحبها أوّلاً؛ فإن التحالف بما فيه من انتقائيّة وحريّة اختيار قد يجعلها عمومية، على الأقل من زاوية السياسة والالتزام الأخلاقى والمسؤولية التضامنية.. لن تكون مُزايدةً إطلاقًا لو قلنا إن الجلوس مع شخصٍ ثمَّ انتخابه مُمثّلاً للمجموعة، يعنى ضمن دلالاته إقرار ما ذهب إليه، وربما تحبيذه أو توظيفه ضمن مسارات العمل التنظيمية، خاصةً أننا إزاء قضية واحدة تخص البيئة السياسية وعلاقاتها، والقطيعة الواجبة بالقيمة والقانون مع أحد الخارجين عليها ومُختصميها بالدعائية والسلاح.
لن نشتبك مع مفارقات عديدة، مُثيرة وساخرة، منها أن الوكيل الذى التقاه أحدهم بالخارج يجتمعون فى مقرّه القديم بالداخل. ربما مُصادفة أنشأتها تصرُّفات عقارية عفوية. لكن أن يظهر الكادر الليبرالى فى قناة مملوكة للشخص نفسه، ومع زوجته التى كانت جزءًا من صفقة استحضاره من بيروت لمحضن المكتب الإدارى ومجموعة محمود حسين، بجانب تمليكه القناة مجانًا، فقد لا يكون ذلك من المُصادفات. الحجّة التى قد يسوقها أنه لا يجد منفذًا نحو المجال العام، دعك من ظهوره فى BBC وغيرها؛ لكن التذرُّع بالبحث عن منصَّة جماهيرية ليس إلا مُراوغة فجّة وسافلة؛ أوّلاً لأن قنوات الإخوان معزولة عن الشارع انطلاقًا من عُزلة التنظيم نفسه، وينسحب عليها ما يصم الجماعة من إرهاب وإجرام، وتتصادم فكريًّا مع الليبرالية الناضجة، وعليها فواتير لليبراليين ممّا فعله مالكوها فى 2011 وبعدها، والأهم أن الرسالة تكتسب قيمتها وتتحدَّد طهارتها ومراميها من الوسيلة، ومن ثمّ فإن طرح خطابات المُعارضة على أرضية إخوانية؛ إنما يُشير إلى اتّحاد الرؤى، أو لقبولٍ ضمنى مُتبادَل، أو تشاركية مُعاداة الدولة/ النظام والتركيب السياسى، وأى احتمال من تلك الباقة ينسف الرسالة والمُرسِل، وقبلها يُدين تيّاره العريض بالكامل.
إزاء مشهد سياسى داخلى، على ما فيه من تعقيدٍ أو تجاذبات، فإن الذهاب إلى الإخوان، أو الاستجابة لنداءاتهم؛ ربما يحمل ضمن احتمالاته شعورًا بالضعف والهشاشة، يتوهَّم مرضاه أن الجماعة تملك دواءً شافيًا، أو جمهورًا قادرًا على حسم المواجهات. تلك نقطة من قبيل المراهقة، ويمكن تقويمها بالجدل والممارسة؛ إنما الأخطر أن يكون الذاهبون لهذا الخيار قاصدين المُكايدة والاستقواء على الدولة بأعدائها؛ لأن ذلك معناه أنهم لا يرون العدوَّ واحدًا، ولا يُقيِّمون المخاطر الوجوديّة بنُضجٍ ومسؤولية. إن البيئة السياسية التى تحدَّدت معالمها بميثاقية 30 يونيو لم يعد الإخوان جزءًا منها، وتلفظهم بقدر ما يُعادون إجماعها ومُكوّناته؛ أما محاولة استحضارهم بطرق مُلتوية ومن أبواب خلفية؛ فإنها انقلاب على التحالف الجامع، وانتحار من تياراتٍ اختبرت سابقًا أنها لو كانت بالنسبة للجماعة أكبرَ من جسرٍ، فإنها أقل من شريك، ولو تيسّر تكرار اللعبة فلن تزيد على كونها معبرًا للمشهد، ثم تابعًا تحت «شرط الإذعان». لم يُثبت الإخوان فى أية محطّة أنهم أذكياء، فخسروا الحلفاء وضاعفوا الخصوم واصطدموا بجدار الشارع؛ لكن بعض النُّخب أثبتوا مرارًا أنهم أغبياء، فارتضوا الزبائنيّة وأخلصوا لأصوليّة جائعةٍ تُبطن عكس ما تُظهر، وبعضهم يعيشون «لعنة سيزيف» حتى اللحظة، ويُكرِّرون المُقدّمات الخاطئة واهمين أنها قد تُفضى لنتائج صائبة.
صحيحٌ أن السياسة فن الممكن؛ إنما على قاعدة المُشترك الجامع ونزاهة المواقف واتساق الخطاب مع الممارسة. إن كانت المعارضة تستشعر فى نفسها الخفّة والضعف؛ فلن يكون الحل فى التساند إلى كومة قشٍّ مُشتعلة. لا يحتمل الأمر أيّة مراوغة أو كيد أو تلويح بخيارات «فوق وطنية»؛ والمشهد الراهن بكامله يتأسَّس على شرعية 30 يونيو، والافتراق عنها احتراقٌ أمام الناس والقانون، قبل أن يكون فى مواجهة السلطة والمُؤسَّسات. يتعيَّن أن تكون مواقف القوى السياسية أكثر مبدئيّة ووضوحًا، وأن تجاهر بقطيعتها مع الإخوان وأية مسارات احتمالية للتقابل خارج المظلَّة الوطنية. ويجب أن يشتغل الحوار الوطنى فى مُخرجاته على وثيقة أخلاقية أو إجرائية، تدين المراوغة وتقطع طرق الالتفاف على تحصين الفضاء السياسى من ألاعيب الإرهابيّين. ما يزال الرئيس بشخصه، واعتباريَّته، الضمانة الأولى والأرسخ لبقاء الجماعة خارج المشهد، والثابت الشعبى على حاله لم يتغيَّر، لكن سذاجة بعض السياسيين وأطماعهم قد تُسقطهم فى المستنقع؛ وإذا كان لا خوف على البلد والمجتمع، فلعلّ بعض القوى «غير الناضجة» عُرضة للخطر، وتحتاج ما يحميها من شُرور أنفسها، ومن سيِّئات عصبة الخيانة والدم.