لا عُقدة من دون حلٍّ. تضيق الحياة ثمّ تُفرَج، وتتبدَّل الأيام من حالٍ إلى حال؛ فتصبح المعاناة ذكرى وننسى كل شىء؛ لكنَّ أحطَّ ما قد تحمله الأزمات ولا يُمكن نسيانه، فئران السفينة وأغنياء المِحنَة، الذين يحسبون كل خطوة بمعايير المصلحة الشخصية، ويُترجمون كلَّ طارئ إلى منفعةٍ، ولا يعنيهم البلد والناس بقدر ما تشغلهم المكاسب وتكديس الثروات. إذا كانت الظروف الاستثنائية تُوجب على الدولة والأفراد انتهاج مسارات غير تقليدية، وترتيب الأولويات، وتقاسم الأعباء، فإن التجَّار والمُستثمرين مدعوّون بالتزامٍ ومسؤولية إلى شراكة الغُرم كما يتشاركون المغانم. الحادث عكس ذلك؛ ومنذ بزوغ الأزمة الاقتصادية الراهنة عالميًّا، نشط طابور من انتهازيى الداخل لاستنزاف كل ما تطاله أيديهم، فضغطوا على السوق، وأرهقوا موارد الدولة، وأضرّوا بمداخيل الأفراد ومعيشتهم؛ ولعل ما يجرى فى ملف السجائر أحد أكثر العناوين فجاجةً فى مُدوّنة الملاحظات الطويلة على «مافيا الفرص الرخيصة».
عمليًّا هناك أولويّات، وليس فى وِسع المُدخّنين الاعتراض على أن يتقدَّم الطعام والخدمات وبقيّة الالتزامات الأساسية على لائحة الحكومة؛ لكن المشكلة أن الأمر بحسب الظاهر منه حتى اللحظة لا يتّصل مُباشرةً بأجهزة الدولة، بقدر ما يقع فى عُهدة التجَّار والوكلاء والسماسرة. ما يحدث من تلك الفئة لا يختلف عن مُمارسات الجشعين فى أسواق الذهب والسيارات والسلع الغذائية، بين تقويم الدولار بأسعارٍ قياسية، والمبالغة فى هوامش الربح، وفرض زيادات عشوائية تحت مسمَّيات غير قانونية، ثم تخزين البضائع من أجل تعطيش السوق وتمرير انحرافهم، ودفع المُستهلكين إلى حافة الضرورة؛ والنتيجة أن تتحوَّل العلاقة من تداولٍ بمنطق العرض والطلب الطبيعيين، إلى إرباك التدفقات المتاحة بغرض خلق زحام على الشراء، ثمّ ترجمته انفلاتًا فى القيمة والعوائد، وتلك صيغة إذعانية لا تجارة مُنضبطة.
فى الذهب، ضغطَ أباطرةُ السوق حتى أشعلوا الأسعار، بفارقٍ تجاوز 1000 جنيه فى الجرام أحيانًا، وحتى بعدما اتخذت الحكومة خطوةً تنفيسيّة عبر السماح بدخول الواردات الشخصية من دون جمارك، ظلَّت قبضة التجار على إحكامها الخانق للسوق وتوازن التسعير. وفى السيارات حدث توافقٌ غير برىء بين الوكلاء والمُوزِّعين، ففرضت المعارض «أوفر برايس» تجاوز سعر السيارة فى بعض الموديلات، ومُؤخّرًا أضاف بعضهم بين 120 و150 ألف جنيه على السعر المُغالَى فيه أصلاً؛ لتقفز بعض إصدارات 2023 لأكثر من قيمة موديل 2024 فى بقيّة الأسواق الإقليمية والعالمية. «حيتان التبغ» ساروا على الدرب نفسه؛ لكن المخالفة هنا أكبر وأكثر فداحة، انطلاقًا من أنها سلعة جبريّة التسعير، وأغلب تداولاتها من الإنتاج المحلى، وتخرج من الشركة الوحيدة «المملوكة للدولة» بالسعر الرسمى؛ ليحتكرها التجّار بوسائل مشبوهة، مُتلاعبين بالشركة والمُستهلك فى وقت واحد.
لو كانت الأسعار الرسميّة ظالمةً؛ فمعنى ذلك أن الشركة المُصنِّعة تتكبَّد أعباء مرهقة، لكنها لا تذهب لخدمة المستهلك النهائى. ولو كانت القِيَم المُتداولة الآن أقرب للمنطق؛ فلا مُبرّر لأن تظل حالة الازدواج المُخلَّة بانضباط السوق؛ وفى الاحتمالين تذهب المنفعة المُبالغ فيها كاملةً إلى جيوب التجّار، لا تستفيد منها الشركة العامة، ولا إيرادات الحكومة الضريبية، ولا المواطن فى آخر سلسلة التداول.. الأمر هنا لا يخص توازن العرض والطلب؛ لأننا إزاء تحوُّل مُتسارع لم ينشأ عن زيادة طارئة فى الشراء، كما لم يصدر عن الشركة والوكلاء ما يُشير إلى تضرُّر الإنتاج أو تراجعه؛ ومن ثم لا معنى لطفرات التسعير اليومية إلا أنها مُضاربة مفتوحة من المُحتكرين الكبار، وتلاعبٌ مقصود بالسوق وعناصرها الأصيلة، نتيجته المباشرة حرمان الشركة من ربحٍ عادل، أو إرهاق المستهلك بأسعار ظالمة. والمنطقى أن هؤلاء المُضاربين فى نشاطهم غير المشروع لا يُثبتون أرباحهم الفعليّة، ولا يُسدِّدون التزاماتهم الضريبية عنها، وتلك حالة «مافياوية» تقترب من النهب المُنظَّم، والإضرار المُتعمَّد بالاقتصاد لدرجةٍ ترتقى إلى الجريمة الجنائية.
لستُ معنيًّا هنا بالدفاع عن سلعةٍ ضارة، وتُكبّد الدولة أعباء حقيقية من تكاليف الرعاية الصحية اللاحقة. أنا وغيرى من المُدخّنين مُقتنعون تمامًا بأننا نُبدِّد المال فى عادة سيئة، ونتحمّل ما تراه الدولة من كُلفة واجبة لتمويل هدر الاقتصاد والموارد الذى تُسبّبه السجائر؛ لكن هناك فارقًا بين الإطار التنظيمى الذى تُحدّده القوانين والإجراءات المُعلنة بمنطقٍ وشفافية، ويُراعى توازن النظر للصالحين العام والخاص، وبين أن يدخل على الخطِّ تُجّار الأزمات ومعدومو الضمير؛ ليُراكموا الثروات الحرام على حساب الدولة والمجتمع. الحديث هنا عن فريقٍ من الناس، يُشبهوننا ويقولون إنهم منَّا؛ لكنهم يتعاملون معنا كما لو كانوا أعداء، يضعون منفعتهم فوق الوطن والمواطنين. وبدلاً من استشعار طبيعة اللحظة الاستثنائية، والتضامن مع محيطهم فى أزمة العالم وانعكاساتها على البيئة الوطنية، ينتهزون الفرصة الحرجة؛ ويُوظِّفون الظروف الضاغطة لخنق السوق وتحصيل منافع مجانية غير مُستحَقّة.
السجائر سلعة ذات وضعٍ مُلتبس. انطلاقًا من أثرها الصحِّى وإهدارها للمال خارج أنماط الاستهلاك النفعيّة وصور الإشباع المُعتادة؛ يطيب للبعض النظر إليها باعتبارها ترفيهًا زائدًا على الحاجة. الحقيقة أنها سلعةٌ أساسية لا ترفيهية، وعضويّة للغاية ضمن منظومة الاقتصاد والتجارة والتعاملات اليومية؛ إذ تؤثر على سلوك ونفسية نحو عشرين مليون مُدخِّن، كثيرون فيهم من الحرفيِّين وأصحاب المهن البسيطة. السجائر أقرب إلى العُملة النقدية لدى الصنايعية، ووسيلة للمجاملة والإكراميات، وتُؤثّر على مزاج السائقين وأرباب الأُسَر، والمُؤسف أنها تتقدَّم بقيَّة الأولويات لدى مرضاها المُدمنين عليها؛ إلى حدِّ أنهم لو وُضِعوا أمام اختيار الأكل أو شراء التبغ؛ فربما يختارون الأخير، وربما تُنتج الحيلولة دون وصولهم إليها آثارًا اجتماعية تخص العلاقات وأنماط التواصل فى المجال العام، وكلّ اقتطاع زائد من المداخيل لصالح تمويل كُلفتها اليومية؛ قد يضغط على بقيّة أبواب الإنفاق، ويمسّ مستوى معيشة العائلات وما يتحصَّلون عليه من سلع وخدمات. صحيحٌ أن أوَّل ما تدل عليه تلك الوضعية الغريبة ضمن سُلّم الإنفاق هو فساد العقل وخلل أولويات المُدخّنين؛ لكننا نتحدث عن واقع يجب أن يكون فى الحسبان عند النظر لتلك السلعة، وفى إجراءات التعاطى مع أيَّة خروقات لأعراف تداولها، وبحث مسألة إتاحتها وردع استغلال التجّار والمُحتكرين.
حتى تكون الصورة واضحةً نوعًا ما. يستهلك المصريون نحو 85 مليون سيجارة سنويًّا، تُنتج الشركة الشرقية ما يقارب 90 % منها، بينها حصّة الشركات الأجنبية بنحو 20 مليون سيجارة تقريبًا. 40 % من الأُسر تقريبًا بها مُدخّن واحد على الأقل، ومُتوسّط إنفاق الأسرة على التدخين يتجاوز 2600 جنيه بحسب أرقام جهاز الإحصاء للعام 2021/ 2022.. حصيلة المبيعات بعشرات المليارات، تتحقَّق عنها ضرائب ورسوم فى حدود 80 مليار جنيه. أرخص الأنواع الشعبية سعرها 24 جنيهًا للعلبة «20 سيجارة»، بينما أوصلها سُعار التجّار حاليًا إلى ما بين 50 و58 جنيهًا فى بعض المناطق، وأقل هامش مُضاف بلغ 15 جنيهًا على بعض الأنواع الأجنبية والمُستوردة والمُهرّبة. نتحدّث عن زيادة تجاوزت 100 % لبعض الأنواع، وتفاوت واضح فى التسعير بين المناطق، وداخل المنطقة الواحدة أحيانًا، وشُحّ مقصود فى أغلب منافذ التوزيع، مقابل تركّز كميات ضخمة فى نقاط تسويق بعينها. لا يبدو الأمر خللاً عابرًا ناتجًا عن تشوّه فى خريطة التوزيع، أو عن انفجار جزئى مُفاجئ للطلب؛ إنما يبدو المشهد كأنه يُدار مركزيًّا من «عصابة مُوحَّدة» يجمعها اتّصال مباشر، وتنسيق دائم، واتّفاق صُلب على مُعدَّلات التغذية والتعطيش اليومية.
إذا اعتمدنا الحدَّ الأدنى للزيادة معيارًا لمُعدّلات الربح غير المشروعة، أى 15 جنيهًا عن كل واحدة من قُرابة 4.3 مليار علبة، فنحن إزاء مكاسب إضافية تتجاوز 60 مليار جنيه سنويًّا، لا فائدة للشركة المُصنِّعة منها، ولا تتحصَّل الدولة على أية نسبة عن القيمة المُضافة والأرباح والضريبة المقطوعة. تذهب تلك الثروات الطائلة مُباشرةً إلى جيوب المُحتكرين وحيتان الدخان، وكلهم معروفون إما فى منطقة «باب البحر» أو غيرها بالقاهرة ونطاقات الموانئ وعواصم المحافظات. أما أخطر ما تفضحه الأزمة أن بعض العاملين بالشركة يُساهمون فى تمرير الإنتاج إلى مخازن التجّار مُباشرة، وكثيرون من الوكلاء والمُوزّعين يعملون بالآلية نفسها، وبديهى أن ذلك لقاء مكاسب وعمولات مُباشرة. أصحاب الأكشاك والمنافذ الصغيرة يشكون من تباعد فترات مرور سيارات التوزيع عليهم، وتقليص الحصص إلى 10 علب من بعض الأنواع ولا شىء تقريبًا من أنواع أخرى. الوضع الآن أن القروش المفترسة فى «باب البحر» تعلّموا من أباطرة الذهب والسيارات، ويُصدرون قائمة صباحية مُحدَّثة يوميًّا، تتحرَّك فيها أسعار السجائر كأننا إزاء مزادات الخضراوات فى سوق العبور أو مُنحنيات الأسهم على شاشة البورصة. واحدة من القوائم قبل يومين رفعت سعر أحد الأنواع من 400 جنيه للباكيت «10 علب» إلى 540 جنيهًا دفعة واحدة.
لا نذمّ عاملاً ولا نُشكّك فى نِيَّة مُوزّع؛ إنما البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير كما قال القدامى. لدينا شركة تُنتج أغلب معروض السجائر فى مصر، وهناك قنوات تضمن وصول مُنتجاتها لتجّار الجملة والتجزئة؛ ثم فجأة تتحوّل تلك الكميات الضخمة إلى المخازن بدلاً من نقاط البيع وفتارين العرض؛ فكيف يحدث هذا إن لم يكن من فعل التواطؤ والاتفاقات المشبوهة؟ وإلى ذلك، فإنّ آلافًا من المعنيِّين بمراقبة السوق وردع تجاوزاته يعيشون ما يعيشه الناس، ويعرفون ما يشكوه كل مُدخّن بروتين يومى مُتكرّر، ثمّ لا تزال المخازن العملاقة آمنةً والأباطرة المُحتكرون يحبسون بضائع بمئات الملايين ويُراكمون أرباحها بطمأنينةٍ وثبات، فهل يُشير الأمر إلى ملاحظاتٍ إضافية بشأن البيروقراطية الصغيرة؟ الحالة أن السوق مُكتفيةٌ ذاتيًّا، وتُنتج العلامات الأجنبية أيضًا، ومخزون التبغ المتاح يتجاوز 6 أشهر تقريبًا، ولدينا وفرة فى المعسّل ونوعيّات دخان أخرى، فما الداعى لانفلات الأسعار سوى الاحتكار والتلاعب والضرب المُتعمَّد للاقتصاد والبلد؟!
اللعبة فَجّةٌ ومكشوفة، أوّلُها جشع التجّار وآخرها شبكة طويلة من السماسرة والمُنتفعين. لا السوق تعيش أزمة إنتاج، ولا الدولة ارتضت ذلك أو شجَّعت عليه. يتطلَّب الموقف تفعيلاً للقوانين فى حدودها القصوى، أو وضع الملف تحت الحالة الطارئة والظرف المُشدَّد، كما يتطلَّب جدّيةً فى الأخذ على أيدى المُتلاعبين، وحزمًا فى التعامل مع المُرتبطين بسوق السجائر من عُمَّال ومُوزِّعين ووكلاء وتجّار، وإحكام الرقابة والمُتابعة من جانب فرق التموين وجهاز حماية المستهلك، ولعلّ المحليات وأجهزة الأحياء تلعب دورًا فاعلاً فى المهمّة.. قبل أيام أعلنت شركة عالمية زيادة أسعارها، ثمّ تراجعت، ثم زادتها فعلاً، والتبرير أنها تتحسَّب من تعديل الضريبة المقطوعة؛ رغم أن البرلمان فى إجازة حتى أكتوبر. ما حدث أن بيانها الأول دفع الحيتان الكبار لزيادة الأسعار، والتراجع دفعهم للتخزين وتعطيش السوق، ثم مع البيان الثانى رفعوا تسعيرهم ثانيةً واستمروا فى التخزين وتحجيم المعروض. لا أدّعى أن الشركة الشهيرة قصدت مُساعدة المُحتكرين؛ لكن ما حدث من أثر ممارساتها أن الجَشِعين زادوا جشعًا وربحًا، والسوق ارتبكت وتضرَّرت أكثر. ليس عادلاً أبدًا أن تدور التداولات الشرعية على سعرٍ، ويكبش اللصوص ضعفَه؛ هكذا يسرق المُحتكر بمُفرده ملياراتٍ تُوازى ما يتقاسمه المُستورد والمُنتِج والمُستهلك والتاجر المُلتزم، وما يصل إلى يد الدولة من رسومٍ وضرائب. «حيتان الدخان» معروفون، و«باب البحر» ليست من مجاهل الخريطة، ونزيف المليارات الضائعة يستوجب الشدَّة والضرب بيدٍ من حديد، ولو كان الأمر عائدًا لآثار الأزمة العالمية لا عصابات انتهاز المِحَن فالمُصارحة مهمّة وضرورية.. إنَّ أخطر ما نُواجهه ليس الأزمة العالمية وانعكاساتها؛ بل تُجَّار الأزمات ممّن ينتمون إلينا اسمًا، ولا يتورّعون عن سرقتنا ومضغنا لحمًا، والبجاحة فى نهش مصر والمصريين دون رحمةٍ أو إنسانية أو مراعاة للمصلحة الوطنية؛ وإذا ارتضت ضمائرهم أن يكونوا خصومًا لنا فى الشدائد؛ فيجب ألَّا نتساهل فى أخذهم بجرائمهم، وألا يفلتوا من المُساءلة وقبضة القانون.