كرّم الله الإنسان وفضّله على كثير من مخلوقاته بنعمة العقل والتفكير، قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"، وبالعقل والتفكير يُدبِّر الإنسانُ حياته، ويحقق أهدافه، ويؤدي دوره في الخلافة، ويُعمّرُ الأرض، وتتسع آماله وطموحاته وأحلامه اتساع الكون الشاسع، فتأخذ الأرض زخرفها وتتزين بيد الإنسان إلى قيام الساعة. هذا هو الفكر السليم والعقل القويم، وهكذا وسطية الإسلام، قال رسول السلام-صلى الله عليه وسلم-: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
وتعد الوسطية منهجاً قويماً للمجتمعات كافة؛ لأنها تعمل على تحقيق التوازن والتعاون والتكافل وكافة المعاني الإنسانية السامية بين البشر في كافة المجالات، وتنبذ الغلوّ والتشدد والتطرف، وتحض على السلم والسلام والأمن والأمان، وتؤدي إلى بثّ الطمأنينة وتأكيد الثقة بين مختلف الفئات والطبقات والثقافات والجنسيات؛ فيحيا الناس حياة هادئة مطمئنة، آمنين في جيئهم وذهابهم، في فرحهم وترحهم، في مسجدهم وكنيستهم؛ لذا باتت الوسطية منهجًا أو طريقة لحياة المجتمعات التي تسعى للرقي والازدهار والنهضة والإعمار.
وتؤدي التربية على الوسطية إلى تجنب الانحراف عن الطريق المستقيم والتردي في متاهي الغيّ والضلال؛ حيث تحض الفرد على الاعتدال في كل ما يخص روحانياته أو أخلاقياته أو تعاملاته، دون تفريطٍ في الواجبات والمسئوليات والفرائض، أو إفراط يحمله على المغالاة والتطرف، كما تؤدي التربية على الوسطية أيضاً إلى اعتزاز الإنسان بنفسه واعتداده بها، ورفضه للخنوع والاستسلام والذل والخضوع، كونها تحافظ على كينونة الطبيعة الإنسانية التي تحكمها الكرامة وعزة النفس ونبذ القبيح وحب الفضيلة والسماحة، والأخذ بسبل الحكمة والموعظة الحسنة التي يتقبلها العقل ويخفق لها القلب.
وإذا ما انحرف التفكير عن صورته الإيجابية ليخرج عن حد الوسطية والاعتدال؛ فإنه يؤدي لسلبيات تطيح بآليات الإعمار، وتنطلق نحو العواقب غير المحمودة من خراب ودمار يهلك الزرع والنسل، ويقوض مهمة وجود الإنسان على الأرض والمتمثلة في إعمارها.
ويشمل الانحراف الفكري جوانب عديدة؛ دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وتربوية، وهذه الجوانب قد يطغى بعضها على بعض في ضوء متغيرات كثيرة، منها ما يتعلق بالتنشئة، ومنها ما يرتبط بالنسق الاجتماعي أو الأيدولوجية، ومنها ما يقترن بالنظم السياسية، ومنها ما يتأثر بالتيارات الدينية، ومنها ما يتواكب مع التغيرات الاقتصادية المحلية والعالمية، وتباين المتغيرات وتعددها يوضح مدى تعقد وتشابك قضية الانحراف الفكري في صورته الكلية، كما يؤكد على ضرورة تنويع استراتيجيات العلاج وأهمية تكاملها؛ للخروج من هذا النفق المظلم إلى الأمن والأمان الفكري الذي يسهم في الإعمار والبناء.
ويُعد الفراغ الفكري رافداً قوياً للانحراف الفكري، ونعني بالفراغ الفكري: خلوّ الذهن مما هو نافع ومفيد، أو حشوه بما هو فاسدٌ وضارّ، ويحدث ذلك نتيجة لأنماط تربوية غير سويّة تُسهم في تكوين نفوس سلبية بليدة، لا تكترث بما حولها، أنماطٍ تربوية تخلو من محتوى نافع يؤسس في عقول أفراد المجتمع مناعة فكرية ضدّ أي تُرّهات.
ويقع على الأسرة الدور الأعظم في تحصين فكر أبنائها؛ حيث التربية الوسطية التي تمدهم بالفكر السليم المقرون بالسلوك القويم، مشفوعاً بنمذجة وتعزيز متوالٍ؛ لتعضيد القيم النبيلة التي تؤمن بها الأسرة وتمارسها، بما يحقق الطمأنينة والاستقرار داخلها، مع تبنيها طرائق للتغذية الراجعة عند حدوث خطأ ما نتيجة لفكر مشوب قد يصيب الفرد من الداخل أو الخارج، وهذا ما يُسمى بالتنشئة السوية والمسئولية الفردية.
وعندما تخفق الأسرة في القيام بأدوارها المنوطة بها؛ فإن الفرد يتعرض للعديد من الأمراض الفكرية، والتي حتمًا تُحدِثُ أمراضاً اجتماعية خطيرة تؤثر على المجتمع بأكمله؛ فمن المعلوم أن الإنسان يحاول اكتشاف ما هو جديد نتيجة الفراغ في الوقت أو الفكر أو الفضول للمعرفة، وإذا لم يتم تدريبه على قبول ما هو مفيد، ونبذ ما هو غثّ، والوقوف على ما هو صحيح، ورفض ما هو خطأ؛ فإن البديل المُرّ يكمن في الانحراف الفكري، ومن ثم انحراف السلوك.
وتقوم التنشئة للأبناء على الشراكة ما بين الأسرة والمؤسسات التعليمية والمؤسسات الاجتماعية والدينية؛ فلكل منها أدوار محددة، متكاملة فيما بينها، وفق منظومة القيم التي يؤمن بها المجتمع ويرعاها، وإذا ما حققت التنشئة أهدافها المتمثلة في إيجاد جيل صالح يسهم في بناء ورفعة الوطن، تأكد لنا سلامة البُنى الفكرية لهذا الجيل، الذي يستحق أن يحيا حياة كريمة فكرياً ومعيشياً.
وننوّه هنا على أهمية الخطاب الديني في بناء الفكر الوسطي؛ وما تفرضه تحديات العصر الحديث من ضرورة تجديده ليواكب متغيرات العصر الذي باتت الثقافة فيه من أساسيات الحياة، وفي نفس الوقت يحافظ على أصالته فلا مجال للتبديل أو تغيير ثوابت الأمة الوسطية؛ فبقاء الأمم واستقرارها رهن ببقاء ثوابتها وتأصلها ورسوخها في نفوس وعقول أفرادها، وانتقالها من جيل إلى جيل.
وتتعاظم أدوار المؤسسة التعليمية في تعضيد الوسطية وإكساب منتسبيها الفكر القويم النافع؛ فمن خلال الاحتواء والحوار تتأصل الأفكار الصحيحة وتذوب الأفكار المشوبة، وينمو الوعي الرشيد الذي يقوم على الدليل والبرهان والحجة، لا على الجدل والسفسطة والحوار غير المنضبط؛ فهناك مبادئ وآداب يقوم عليها الحوار والمناقشة تسهم في تحقيق الهدف الأسمى منها؛ حيث تصويب أنماط الفهم الخطأ لدى المتعلم، ومن ثم تكوين فكر صحيح في جملته يؤدي إلى البناء وينفر من الهدم.
وتنمية الفكر النافع من قِبَل المؤسسة التعليمية يحدث بصورة مقصودة عبر أنشطة تعليمية متنوعة تعمل على تنمية مهارات التفكير العليا لدى المتعلمين، ومن ثم يصبحون منتجين غير مستهلكين أو معتمدين على غيرهم، متحملين مسئولية تعلمهم وتقدمهم، منشغلين بكل ما هو مفيد ونافع، محافظين على مبادئهم غير مغالين في أفكارهم، ومن ثم يؤدي تعلم العلوم المختلفة بهم إلى تكوين الفكر العلمي الوسطي في نتاجه.
إن ما تبذله المؤسسة التعليمية في تربية الفرد على الوسطية يجعله يختار أيسر الأمور إذا ما واجهته خيارات، وتمنعه من الانزلاق نحو ما يهدد هويته، ويشوب ثقافته التي يستقي مبادئها من قيم مجتمعه، وتؤكد ترجمة الوسطية من وجهة نظر تربوية على سلامة الفكر مقترناً بالسلوك القويم، وهذا ما يُبعد الفرد كل البعد عن مساوئ التعصب والتطرف البغيض، ويتسق ذلك مع أنماط تعديل السلوك الخبراتي التي تقوم به المؤسسات التربوية بكافة تنوعاتها.
حفظ الله أبناءنا وشبابنا فلذات أكبادنا وثروة الوطن، ووفق قيادتنا السياسية في تحقيق آمال وطموحات وطن في قلوبنا.