حالة من البهجة تم تداولها الأسبوع الماضي على صفحات التواصل الاجتماعي بتداول فيديو الموسيقار المغربي أمين بودشار في حفل موسيقي على طريقة تشبه الكاريوكي، حيث تقوم الفرقة الموسيقية بعزف موسيقى أغنية ويقوم جمهور، يقارب عدده العشرين ألفا أو يزيد، حسب اتفاق مسبق بأداء أغنية يقوم باسترجاع كلماتها عبر الهواتف المحمولة، وربما تكون حالة البهجة قد وصلت إلى ذروتها لأن الأغنية الأكثر انتشارا هي جانا الهوى لعبد الحليم حافظ، التي أداها الجمهور بأداء متقن إلى حد بعيد، وحماس ربما لم يتكرر بالطريقة نفسها مع كثير من الأغنيات.
بطبيعة الحال يبقى للفن المصري حضوره المركزي في الثقافة العربية المعاصرة، وأثره الذي لا يمكن إنكاره في جوانب عديدة من الإبداع العربي، بما يجعل منه على الدوام ممثلا لصدارة المشهد، وإن مرت الأعوام ليبقى مؤثرا دائما، فعلى الرغم من أن هذه الأغنية قد ولدت منذ أربعة وخمسين عاما فإن كثيرا من الشباب الذين لم يعاصروا عبد الحليم حافظ أو يشاهدوه قد كانوا يغنون بحماس شديد وعاطفة لا يمكن إنكارها، مما يؤكد فعالية الفن المصري وتأثيره في الجمهور العربي.
من زاوية أخرى يبدو الأمر له علاقة وثيقة بتحول أساسي في رؤية المراكز بمعنى أن هناك تغيرا في الأدوار قد بدأ يطرأ على شكل العلاقة بين المرسل والمتلقي، حيث كان الأمر من قبل يقتصر على وجود مبدع في مركز المشهد والمتلقون يمثلون الهامش الذي يجلس منتظرا الرسالة الإبداعية التي يرسلها هذا المبدع، ويتحدد دور الجمهور في التصفيق أو على أقصى تقدير في التفاعل بالقيام بدور الكورال، غير أن هناك أثرا قد تركته الإنترنت ووسائطها الاجتماعية في إمكانية تحول المتلقي (الجمهور) إلى مرسل بدوره، ليتحول مكان الهامش إلى مركز، بل لينتهي تماما دور الهامش عن طريق تعدد المراكز، وليصير كل منا مبدعا جديدا.
الأمر لا يقتصر إذن فقط على مجرد التفاعل مع نص جيد أو مع أغنية جميلة مؤثرة، لكنه يتعدى ذلك إلى إحساس الأفراد بإمكانية فعالية دورهم في إنتاج الرسالة الثقافية، ذلك الأمر الذي بدا في إحدى صوره عشوائيا عن طريق مقاطع التيك توك والسناب شات، لكنه عندما وجد من يرشده وينظمه مع عدم القضاء على فكرته الأصلية أنتج لنا تنويعا جديدا بديعا على أغنية جميلة.
ربما يكون الدرس الذي يجب على مؤسساتنا الثقافية ونخبنا المفكرة أن تتعلمه من هذا الموقف يتجلى في أن هناك من يمكنه أن يخلق من إبداعنا القديم إبداعا جديدا شرط أن نثق فيه وألا ننفصل عنه، وأن تكون الرؤية الجديدة للعمل الثقافي والإبداعي منطلقة من تلك المنطقة التي يتقاطع فيها وعي المبدع ووعي الجمهور الذي لم يعد يؤمن بالتلقي السلبي، بل يتفاعل وينتج من إبداع النخب إبداعا جديدا وراقيا، وهو درس ربما يشكل مرحلة جديدة في شكل الإبداع والعمل الثقافي شرط أن نؤمن بإمكانية تحققها.