قمم متتالية باتت تستهدف القارة الأفريقية، تعكس حالة من التنافس الدولي على تلك المنطقة، بين القوى الرئيسية في العالم، بين روسيا والولايات المتحدة والغرب الأوروبي والصين، في محاولة تحمل في طياتها استقطابا، في ظل صراعات متواترة، ربما بدت أبرز تجلياتها في أوكرانيا، بينما تبقى في الوقت نفسه إرهاصا لأزمات أكبر، قد تأكل الأخضر واليابس، في ظل امتداد دائرة الصراع لتشمل أطرافا أخرى، من بينها دول عدة في أوروبا الشرقية، على رأسها فنلندا والسويد، واللتين تخليتا عن حيادهما بالإعلان عن رغبتهما في الانضمام للناتو، أو الصين، والتي يراها المعسكر الغربي محسوبة على موسكو، وهو ما يمثل حالة من التمدد والامتداد التي تشهدها الحالة الراهنة، التي قد تشمل دائرة أوسع من الدول، حال عدم القدرة على احتوائها.
ولعل القمة الروسية الأفريقية أحدث حلقات القمم، التي عقدتها القوى المتنافسة، حيث شهدت دعما روسيا، لدول القارة السمراء، تجسد في تقديم شحنات مجانية من الحبوب لهم، في ظل التداعيات الكبيرة للأزمة الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي، وهو ما يمثل امتدادا لوعود قدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الإطار، تجاه الدول النامية، في انعكاس لتلامس موسكو مع أزمة لحظية تعاني منها تلك المنطقة من العالم، خاصة مع تراكم المسببات المؤدية لها، والتي لا تتوقف على الصراع الراهن، وإنما تمتد إلى قضايا أخرى، على رأسها ظاهرة التغيرات المناخية، والتجريف المتعمد الذي طالها جراء أطماع القوى الكبرى، التي استمرت لعقود طويلة من الزمن، في سبيل تحقيق التنمية.
ولكن بعيدا عن المزايا التي تسعى روسيا إلى تقديمها إلى أفريقيا، لاستقطاب دولها في تلك اللحظة الحرجة من التاريخ الدولي، تبدو العلاقات مع القاهرة كانت مدخلا مهما لتوغل موسكو إلى عمق القارة السمراء، وكذلك منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يبدو في العديد من الملامح التي هيمنت على المشهد الثنائي في السنوات الماضية، وتحديدا منذ ثورة 30 يونيو، والتي فتحت الباب أمام انفتاحا مصريا ملموسا على قوى متعددة، يعكس بجلاء نجاح الدولة المصرية في التحول من الاعتماد على حليف واحد، تجسد في الولايات المتحدة، لعقود طويلة، إلى نهج متعدد، يعتمد تنوع الشركاء، مما يسمح بقدر من المناورة، التي من شأنها تحقيق المصالح المشتركة.
والملاحظ في هذا الإطار، أن النهج المصري اعتمد مسارين متوازيين من التحول في العلاقات مع القوى الدولية الكبرى، أولها من النهج الأحادي، إلى التعددية، وهو ما يتوافق مع حالة المخاض التي يشهدها العالم، في اللحظة الراهنة، في الخروج من حقبة الهيمنة الأمريكية، نحو صعود قوى جديدة يمكنها مزاحمتها على قمة النظام العالمي، بينما كان المسار الثاني قائما على التحول من دائرة "التحالف" بمفهومها التقليدي، نحو نهج "الشراكة"، عبر التركيز على المصالح المشتركة، والعمل على تعظيمها، جنبا إلى جنب مع تنحية الخلافات جانبا، من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، أو التغلب على أكبر قدر من التحديات والأزمات التي تمثل السمة السائدة في ظل الأوضاع الجديدة.
المسارات المصرية في التعامل مع القوى الدولية الكبرى، تبدو واقعية إلى حد كبير في ظل تزامنها، فالتطابق الكامل في الرؤى بين الدول بات مستحيلا، في ظل التعددية، وبالتالي أصبحت التحالفات بالمفهوم الذي أرسته الحرب الباردة، غير موجودة، وهو ما يبدو على سبيل المثال في "المعسكر الغربي" في ضوء الخلافات الكبيرة بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، خلال السنوات الماضية، سواء فيما يتعلق بالموقف من روسيا أو الاتحاد الأوروبي، أو حتى فيما يتعلق بالعلاقات التجارية بين الجانبين على عكس ما كان عليه الحال، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما سارت العلاقة بين الجانبين، على أساس دوران أوروبي في الفلك الأمريكي، مقابل مزايا اقتصادية وتجارية وسياسية أمريكية لصالح الحلفاء في أوروبا الغربية.
ففي ظل التعددية، يبقى تحقيق التناغم مع عدة أطراف متناحرة هي المهمة "المستحيلة" التي سعت إليها القيادة المصرية، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، عبر استكشاف ما تملكه من نقاط قوة، استطاعت من خلالها تقديم صورة جديدة لها، بعيدا عن "التبعية" التي هيمنت على سياساتها قبل عقد من الزمان، وهو ما يبدو في نموذج العلاقة مع روسيا، حيث فتحت لها أفاق التعاون، ليس فقط على المستوى الثنائي، وإنما على المستويين القاري في إفريقيا، والإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان الانفتاح على موسكو مدخلا لها للدخول على خط الحرب على الإرهاب إبان "الربيع العربي"، بينما كانت رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي في عام 2019، انطلاقة نحو تدشين القمة الروسية الإفريقية، حيث انعقدت في تلك الفترة نسختها الأولى، بينما كانت القمة الأخيرة في سان بطرسبرج هي الثانية من نوعها.
الأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للصين، والتي فتحت علاقتها القوية مع القاهرة الأبواب أمامها للانطلاق نحو عمقها الجغرافي، عبر الانفتاح بصورة أكبر على أفريقيا والمنطقة العربية، في الوقت الذي لم تخرج فيه الولايات المتحدة من الصورة، حيث عقدت هي الأخرى قمة مع دول القارة في ديسمبر الماضي، بينما سعت إلى تقديم منح لها، لمساعدتها على تجاوز الأزمات المترتبة سواء على الأزمة الأوكرانية أو التغيرات المناخية، في انعكاس صريح لما يمكننا تسميته بـ"تنافسية القمم"، بين القوى الكبرى، على إفريقيا.
تلك الحالة التنافسية بين القوى الكبرى، على استقطاب أفريقيا، تعكس بجلاء نجاح الرؤية المصرية، القائمة على التعددية، والتي جاءت بديلا للنهج الأحادي، من جانب، والشراكة، والتي حلت محل "التحالفات" بمفهومها التقليدي، في ظل احتمالات ظهور "الخلافات" جراء ما يعصف بالبيئة الدولية من أزمات تبدو متمددة وممتدة، تحمل بكل تأكيد تداعيات كبيرة على المشهد العالمي، سواء في داخل الدول، نتيجة تغير يبدو سريعا نسبيا في الأنظمة الداخلية، وما قد يترتب عليها من تغيير الأولويات لديها، أو أزمات جمعية، يشهدها العالم نتيجة الأزمات المتواترة التي تعصف بالعالم في اللحظة الراهنة.
وهنا يمكننا القول بأن القمة الروسية الأفريقية هي أحدث حلقات القمم التي تستهدف استقطاب إفريقيا في لحظة مهمة بالتاريخ الدولي، بينما تبقى الرؤى التي تبنتها مصر هي البوصلة التي غيرت الاتجاه القاري، نحو التعددية، بينما في نفس الوقت لفتت أنظار العالم، نحو تلك المنطقة من العالم، في ظل أهميتها الكبيرة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الممكنة، عبر تحقيق الشراكة معها، مما يساهم في إضافة المزيد من الرخم للقارة السمراء في ظل عالم متغير.