بينما كنت أتابع طريقي من سينما لأخرى تعرض فيلم "أوبنهايمر" في القاهرة، متجنبة أية هفوة تمنعني من مشاهدته في أسبوعه الأول، خطر لي أن العالم كله احتشد ليشاهده في نفس اللحظة، إذ بدا الزحام المكثف أمام الصالات السينمائية يشي بذلك، وأدركت ما قاله فرانسيس فورد كوبولا مؤخرًا بأنه لم يشاهد "أوبنهايمر" أو "باربي" الفيلم الثان الذي يوازيه في جماهيريته تقريبًا، لكن امتلاء القاعات بجمهور يتطلع لمشاهدة أفلام تُعرض للمرة الأولى دون أن تكون جزءً من سلسلة، فهذا في حد ذاته يعتبر إنتصارًا للسينما، وإشارة دخول إلى عصر ذهبي لسينما رائعة ومضيئة.
على قدر هذا التصريح المتفائل لسينمائي كبير مثل كوبولا، فإنه من البديهي السؤال عن السر وراء هذا التمركز الجماهيري لمُشاهدة الفيلم الذي لا ينتمي لأفلام الحركة والأكشن أو الكوميديا، ولا ينضوي بطله كيليان مورفي تحت راية نجومها، كيف إذًا لجمهور أغلبه من شباب في مقتبل العمر، لا يعرف الفيزيائي الأمريكي جوليوس روبرت أوبنهايمر أو مشروع منهاتن وربما لم يدري عن قصف هيروشيما وناجازاكي بالقنبلة الذرية سوى سطرين في كتب التاريخ، إن كان درس شيئًا عن الحرب العالمية الثانية وتذكره أصلًا، جيل أزعم أنه بأقصى تقدير لم يقرأ عن المكارثية وإرهابها الذي نال من الكثيرين في فترة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، كيف لهؤلاء أن يتابعوا بهذا الحماس فيلمًا يوثق لـ"أبو القنبلة الذرية"؟ ما الذي يجذبهم في الحكاية؟!
طوابير الجمهور والتزاحم في دور العرض والأرقام: نحو 20 مليون دولار في مصر و 265 مليون دولار حول العالم خلال الأسبوع الأول لعرضه، كل ذلك يعكس حالة مثيرة للتأمل، بما تشمله من تحديات يواجهها هذا النوع السينمائي سواء في علاقته بمتفرجيه أو في ثقله الإبداعي، وهو ما يحيلنا إلى السؤال مرة أخرى ومحاولة معرفة الدافع أو بالأحرى المزاج الجماهيري، هل سر الجاذبية في الاسم البراق لمخرجه كريستوفر نولان، أم لأنه هنا في فيلمه الثاني عشر المأخوذ عن كتاب "بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة جيه روبرت أوبنهايمر" تأليف كاي بيرد ومارتن شيروين، اجتمعت نخبة من نجوم هوليوود: روبرت داوني جونيور، مات ديمون، إيميلي بلانت، رامي مالك، فلورنس بيو، جان تاتلوك، كينيث براناه، جاري أولدمان، جوش هارتنت، و.. آخرين غير "كيليان مورفي" ممثلًا بارعًا يحتل مكانة رفيعة المستوى في المشهد السينمائي، ويجسد شخصية أوبنهايمر ؟..
هل الخط الدرامي الحربي والتاريخي مثير لهذه الدرجة؟.. نظريًا يصعب القول بأن الفيلم وأسلوبه الفني والجمالي ومضمونه الدرامي والثقافي، وظهوره في وقتنا الراهن المشحون بالتحولات المربكة وخوف العالم من حدوث حرب نووية، استدعى المكتوم في ذاكرة مشبعة بالألم وفاضت بحكايات تعيد تكوين المسافة بين الموت والحياة، فكما أسلفت غالبية الجمهور من الشباب الصغار لم تتدرب حواسهم على الحروب، بل تبلورت على صور الشاشات وإبهارها، تسأل المراسلة في إحدى لقاءات التغطية للفيلم صبيًا في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره عن سبب حضوره الفيلم، فيضحك كثيرًا قبل أن يخبرها بأنه لا يعرف، ويضيف:"بس الدعاية كانت جامدة أوي.. والفيلم فيه كل حاجة وأكشن وحرب".
هذا الصبي امتثل للدعاية دون أن يستوعب هوية الفيلم وقضيته، ومن الطبيعي أنه لم ينتبه إلى الخطأ الذي فطِن إليه بعض المتابعين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، في إحدى اللقطات، حين وقف أوبنهايمر وسط حشد يصفق ويهتف من أجله وهم يلوحون بالأعلام الأمريكية، يفترض أنه في العام 1945، لكن الأعلام تضمنت 50 نجمة بيضاء، تمثل الولايات الأمريكية الخمسين، على الرغم من أن أمريكا حينذاك كانت تضم 48 ولاية فقط، لكن عمومًا فإن الأفلام التي تحكي عن الحروب تمتلك بعدًا أسطوريًا بشكل ما، يحقق جدلية الحب والحرب التي أرقت العلماء والفلاسفة وأهل الفن والإبداع في حياة تزخر بحروب عدة، حتى أن الفيلسوف اليوناني هيراقليطس مثلًا يزهو بالحرب ويمجدها، فيقول: "الحرب ربة الأشياء" في كتاب "جدل الحب والحرب"، هذا الكتاب الذي جمع فيه الدارسون ما تبقى من شذرات كتابه المفقود "في الطبيعة" وفلسفته في التغيير، ويضع سيجموند فرويد تطبيقاته عنها متجاوزًا التقنيات السيكولوجية إلى آفاق أرحب في كتابه "الحب والحرب والحضارة والموت"، محاولًا أن يصنع طريقة في التعايش مع الوجود والناس بشكل أفضل يحقق السعادة للإنسان، ومستكملًا ما بدأه في كتابه "أفكار لأزمنة الحرب والموت" طارحًا في سبعة أبحاث كتبها فى فترة الحرب العالمية الأولى، تحليله النفسي لظاهرتى الحرب والموت وما بينهما من حزن ومرض وألم وانهيار فردي وجماعي.
نخرج من هذه المداخلة أن إقبال الشباب المكثف على الفيلم لا يرتبط بخلفية ثقافية عميقة لهم، ولا بشهوة أو توق للفرجة على فيلم سيرة ذاتية لفيزيائي تحول إلى أداة من أدوات الحرب، إنما هو على الأغلب نتيجة المواظبة الترويجية والتسويق الذكي المدعوم بشبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل الفيلم "تريند" يرغب الجميع في الفرجة عليه والمشاركة في أجوائه الحافلة بحضور ساطع للحظات مقتنصة من سِيَر تاريخ يلوح الآن كأنه صانع للمتعة، والنظرة إليه تحمل معان ملتبسة نحو الجمال والوهم والحقيقة.
على أية الأحوال تعددت الأسباب والنتيجة واحدة وهي أننا بصدد فيلم مصنوع ببراعة، توثيق روائي يسرد عن عمد التباسات وتناقضات عدة، إنه وسيلة نولان لتحقيق المبتغى، والمبتغى هو التصالح العميق مع الإنسانية المهدورة وترميم صورة شخصية هي في حد ذاتها مرآة للحياة بكل تقلباتها، تنعكس فيها مشاعر وتفكير ومواجهات تستعرض الحالة النفسية لـ"أوبنهايمر" وحيرته بين إنجازه العلمي والدمار الذي نجم عنه، تفاصيل عدة يرويها الفيلم بنبرة هادئة أحيانًا وبغضب أحيانًا، بحوارات شارحة ومفسرة وبأسلوب بصري يثير بعض توتر وقلق مطلوبين، ويروي مسائل كثيرة في فيلم يحمل ثقلًا كبيرًا وعمقًا مركبًا، كعادة نولان في عمله وصُنعه الجميل وتفكيكه للشخصية والحدث.
ربما خيب نولان أمل الشباب الذين ذهبوا ليشاهدوا انفجار قنبلته الذرية على هيروشيما وناجازاكي، فلم يفعل وراح يتوغل في مساحات نفسية وإنسانية تتعلق بالفعل والندم عليه، البطولة من وجهة النظر الأمريكية والحرب والموت، أمور ينقلها نولان على الشاشة وهو يحاول أن يكون حياديًا، فهل كان؟..
بين الأبيض والأسود ثم الألوان تراوحنا صورة نولان، لتقدم لنا الحكاية بأكثر من منظور وزاوية، "من المستقبل إلى الماضي رايح جاي" يتحرك في الزمن ليشد أطراف الحكاية التي أرادها، الحكاية المترعة بالوجع والجدل ومحاولة الإمساك بتفصيلة إنسانية ما، إنه يستهل فيلمه بالإشارة إلى "بروميثوس" مانح البشر النار والمعرفة، فهل يشبه أوبنهايمر "بروميثوس"؟.. نولان يتمركز حول "أوبنهايمر" فاختار زوايا معينة للحديث عنه، والتاريخ عندما يتحول إلى صورة على الشاشة يكون انتقائيًا، على هذا الأساس نجد صانع القنبلة الذرية والمكلف بإدارة "مشروع مانهاتن" الهادف إلى إنتاج الأسلحة النووية، في مراحل مختلفة تدرجت بين أحلامه وطموحاته العلمية قبل الحرب وأثناء دراسته، مرورًا بخبرته وتطوره العلمي ثم تدخل السياسة في العلم وتدمير البراءة والإنسانية معًا، وصولًا إلى المكارثية والإرهاب الفكري وتصفية التقدميين الأمريكان، وخضوعه للتحقيق بتهمة الجاسوسية والاتصال بمنظمات يسارية والانتماء للحزب الشيوعي السوفيتي قبل إشرافه على صناعة القنبلة، هنا سيجد المُشاهد نفسه في قلب التجربة متفاعلًا مع الأحداث والطواف معها في أزمنتها وأمكنتها المتقاطعة حسب الفلاش باك، والانتقال من القديم إلى الجديد بشكل انتقائي يعبر عن القصة من زاوية سردية غير تقليدية، يبدو فيها الإيقاع بطيئًا أحيانًا، وممتثلًا لأسلوبية الحوار الطويل في فيلم هو بالفعل طويل نحو ثلاث ساعات، ثم تحدث وثبة زمنية تغير المسار لنرى إجمالًا صورة متكاملة عن الحياة والتوحش الإنساني في هذا الزمن: الأمريكان والروس والنازي واليابان و.. كل أطراف الحرب البشعة.
يحاول الفيلم أن يكون حياديًا ويظهر أوبنهايمر أنه ليس كامل البراءة ولا كامل المسؤولية، إنه يريد ببساطة طرح العديد من الأسئلة حول هذه الفترة التي شهدت تدميرًا وحشيًا، كما لو كان يقدم اختبارًا للتأمل في أحوال وأفكار ونمط حياة قاسية وقتذاك، بتشكيل بصري لافت مشغول بحِرفية نسجت صورة فيها من البلاغة ما يقول بوفرة عن الحكاية ويكشف عن عمق الهوّة التي عاشتها ومازالت الإنسانية.. نحن أمام فيلم كبير على الرغم من السجال المثار حوله، يقدم تأريخ بصري ودرامي متواز، مأخوذ من واقع وذاكرة لا تنضب ولا يهجرها الجمهور بفئاته المختلفة ومنها الشباب وإن كان يسعى للمتعة البصرية أكثر.