أمد الله في عمر هذه السيدة الجليلة التى تحتفل ويحتفل معها أبناوها من طلبة وطالبات قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة بعيد ميلادها الـ84، ومتعها بالصحة والعافية. أقف حائرا أمام الوصف الدقيق والكلمات التي تعبر عنها، وتمنحها مكانتها العلمية والاجتماعية والإنسانية الحقيقية، فهي أم الأجيال، والمعلمة القدوة، والأستاذة الملهمة، والمناضلة صاحبة المواقف الواضحة، الدكتورة عواطف عبد الرحمن والذي يختزل اسمها كافة المناصب العلمية والأكاديمية.
كل من تتلمذ على يديها في كلية الإعلام منذ تأسيسها في بداية السبعينيات، أحس منذ الوهلة الأولى أنه ليس فقط أمام أستاذة أو معلمة، وإنما أمام أم أو أخت كبرى وأمام سيدة صاحبة مدرسة إنسانية راقية تسبق مدرسة العطاء العلمي والأكاديمي التي تميزت بها بين أساتذة الجامعات المصرية.
كان لى الحظ والشرف الكبير - الذي ما زلت أتباهى به حتى الآن - أن أكون واحدا من أبنائها التلامذة في قسم الصحافة في بداية الثمانينات. حرصت كما حرص طلاب القسم على حضور محاضرة الدكتورة عواطف الأسبوعية في مدرج 16 بالطابق الرابع بمبنى كلية السياسة والاقتصاد، حيث احتلت كلية الاعلام هذا الطابق منذ الإعلان عن استقلالها عن كلية الآداب وتحولها إلى معهد عام 1971، وكلية عام 74، وتخرج أول دفعة عام 75 وهي أول دفعة من خريجي كلية الإعلام في مصر والعالم العربي، قبل أن تنتقل إلى مقرها الجديد في المبنى الحالي عام 1995، وهو الحلم الذي ظل يراودنا منذ التحاقنا بالكلية ولم يتحقق حتى تخرجنا!
محاضرات الدكتورة عواطف لم تكن كمثيلاتها من محاضرات باقي الأساتذة الأجلاء في مواد الصحافة، كانت عبارة عن منتدى فكري وسياسي واجتماعي وثقافي إلى جانب المادة العلمية في مناهج البحث التي درستها لنا الدكتورة عواطف. لم يكن قد مضى عام أو قليلا على الإفراج عنها عقب قرار الرئيس الراحل محمد أنور السادات باعتقال أكثر من 1500 شخصية مصرية، دينية وسياسية وصحافية و طلابية، وغيرها بقرارات سبتمبر المعروفة عام 1981 والتي سبقت اغتياله بأقل من شهر تقريبا.. بين حماس الشباب في بداية سنوات التكوين الجامعي ومهابة ورزانة أستاذ الجامعة دارت المناقشات التي بلغت حد السخونة في بعض الأحيان.. الأحوال السياسية والاقتصادية الاجتماعية في مصر في ذلك الوقت في سنوات منتصف الثمانينات أحاطتها أسوار الأسئلة القلقة حول المستقبل عقب رحيل السادات وتولي مبارك، وعاد المبعدون إلى أقلامهم وأمور الواقع وتوقعات المستقبل تستحوذ على كتاباتهم وكتب الأستاذ هيكل مقالاته الشهيرة والتي لم تكتمل في أخبار اليوم "صنع المستقبل السياسي في مصر". أسئلة مرتبكة وحائرة عن عبد الناصر والسادات والاشتراكية والانفتاح وعن المستقبل، وإجابات متزنة وعاقلة ومتفائلة هي ما اتسمت به محاضرات أستاذتنا التي لم نجرؤ على "تفويت" محاضرة لها والغياب عنها.
عطاؤها العلمي والإنساني والاجتماعي والسياسي لم يقتصر فقط داخل أسوار الجامعة، وإنما على صفحات الجرائد في الأهرام- هي بالمناسبة عملت صحفية في هذه المؤسسة العريقة- وفي الأهالي – حيث انتمت سياسيا وعضويا إلى حزب التجمع الناطقة باسمه الصحيفة- وتوهجت في الندوات والمؤتمرات الخارجية مدافعة عن مبادئها التي تؤمن بها في الحرية والمساواة والعدل.
الإعجاب بها والاندهاش من حضورها ومهابتها وانسانيتها كان يزيد بداخلنا يوما بعد يوما، داخل الكلية وخارجها، فقد كانت تحرص دائما على التفاعل بين الطلبة بعضهم البعض دون الفصل النفسي بين الطلبة والطالبات، ولذلك كانت تعليماتها أن تكون مجموعات مناهج البحث مزيجا بين الجنسين، فالجميع تحت قبة الجامعة وفي محاضراتها سواء لا تفرقة ولا تمييز..
ولا يمكن نسيان تلك الجلسات الترفيهية الممتعة معها خارج مبنى الكلية وعلى العشب أسفل تمثال شهداء الجامعة.
لمن تعامل معها أو كان في يوم ما تلميذا لها، يبقى دائما وفيا وممتنا ومدينا لها بالكثير، إنسانيا وعلميا، فالكل قد تعلم منها المبادئ الكريمة في حب الوطن والانتماء إليه والقيم الانسانية النبيلة في دعم ومشاركة الآخر في المجتمع الذي يعيش فيه.
ما يدهشك في شخصية الدكتورة عواطف عبد الرحمن هو تلك الذاكرة المذهلة و"قاعدة البيانات" التي تحتفظ بها لمئات بل لآلاف من تلامذتها الذين تخرجوا على يديها في كلية الإعلام عبر سنوات ممتدة من السبعينات وحتى الآن.. في كل مناسبة تلتقي بها وفي أوقات متباعدة تقبل عليك وهي تناديك باسمك، فرحة وسعيدة بما تحققه في العمل الصحفي والإعلامي، فتجعلك تشعر بالاعتزاز والفخر والامتنان لهذه المعلمة الجليلة والأم الحنونة.
منذ يومين التقيتها بالصدفة في رحاب دار الأوبرا بالقاهرة مع تلميذتها الصحفية الفلسطينية الزميلة رباب جبارة.. طبعت قبلة حب وعرفان فوق رأسها وجلست إليها، ودارت أحاديث الذكريات الجميلة التي تخللتها دروس في الحياة وفي العلم وفي المواقف. مازالت الدكتورة عواطف تلك المرأة الصامدة والمؤمنة بقضايا التنوير والتحرير والاستقلال الوطني والتنمية الوطنية ومناصرة المهمشين ونصيرة المرآة في التمكين السياسي والاقتصادي الاجتماعي.
مازالت المؤمنة بماضي وحاضر ومستقبل قارتها السمراء التي زارت أكثر من 35 دولة من دولها.. مازالت مؤمنة بحق الصعيد – التي تنتمي اليه- في التنمية والعدالة الاجتماعي، رغم أنها " بنت عمدة"..!
عندما شرعت في كتابة مذكراتها ونشرها عام 2014 اختارت لها عنوانا يليق بها "الصفصافة" تلك الشجرة الكبيرة الوارفة الظلال، التي تستحم طوال الوقت في ماء النيل أو الترع التي تخترق ريفنا الطيب في الصعيد وبحري. فالاسم له دلالة على المكان والزمان والشخصية.
في قرية الزرابي بمركز أبو تيج بمحافظة أسيوط ولدت عواطف عبد الرحمن "بنت عمدة القرية" في أول أغسطس عام 1939 .تعلمت بالقرية وحصلت على المركز الأول على مستوي المملكة المصرية في التعليم الابتدائي ثم انتقلت للتعليم الإعدادي بأسيوط فحصلت على المركز الأول. انتقلت إلى القاهرة للتعليم الثانوي، لعدم توافره بالصعيد في ذلك الوقت فحصلت على المركز الأول على مستوى القاهرة.
درست بقسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة القاهرة وتخرجت بتفوق عام 1960، فرشحها أستاذها الدكتور خليل صابات للعمل كصحفية في القسم السياسي بجريدة الأهرام ومجلة السياسة الدولية، ثم محررة بجريدة الأهرام الاقتصادي حتى عام 1972.
تفوقت في العمل الصحفي وأجرت أكثر من 150 حوارا مع سفراء العالم الثالث. حصلت على الماجستير في موضوع صحافة الثورة الجزائرية عام 1968م والدكتوراه في الإعلام عام1975وهو ذلك العام الذي عينت فيه مدرس بقسم الصحافة بكلية الإعلام. ثم أستاذ مساعد عام 1980. وأستاذة ورئيسة قسم الصحافة بالكلية عام 1985ووكيلة كلية الإعلام للدراسات العليا والبحوث 1987.
الدكتورة عواطف عبد الرحمن أسست قسم الإعلام بجامعة أسيوط و تولت رئاسة تحرير مجلة الدوار الصادرة عن اليونسكو ومركز بحوث المرأة بجامعة القاهرة ورئيس لمركز بحوث المرأة والإعلام والمتحدث الرسمي باسم أفريقيا ودول الشرق الأوسط في المجال الإعلامي والمتحدث الرسمي باسم مصر في مجال الإعلام لأكثر من 150 مؤتمر دولي.
من أهم مؤلفاتها، اكتشاف أفريقيا، إسرائيل وإفريقيا، بريد القراء في الصحافة العربية، دور وسائل الإعلام الأفريقية، مصر وفلسطين، قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث (سلسلة عالم المعرفة)، مقدمة في الصحافة الأفريقية. هموم الصحافة والصحفيين في مصر. المرأة العربية والإعلام.
وحصلت على العديد من الجوائز منها جائزة سلطان بن علي العويس في مجال الدراسات الإنسانية والمستقبلية الدورة الرابعة عام 1994، وجائزة أفضل عشر نساء مصريات بمجلة حواء ، وجائزة البحرين لأفضل بحوث عن المرأة، وجائزة جامعة القاهرة التقديرية.
وتبقي أجمل وأحب جائزة هي محبة وتقدير وعرفان وامتنان طلابها لها. كل سنة وأنت "صفصافة" لنا يا معلمتنا الجليلة.