غالبا ما تقاس أهمية المجتمعات وعبقريتها بمدى قدرتها على الابتكار، ومدى جرأتها على شق الطرق غير المأهولة لتتحول الأحلام إلى كيانات حقيقية من لحم ودم وقواعد وأساسات، لكننا مع هذا اليقين الثابت نجتهد طوال عمرنا لنضع مجتمعنا فى قالب واحد، لينتج نسخا متكررة من نسخ متكررة من نسخ متكررة، وفى النهاية لا ننتبه إلى أن كثرة الاستنساخ تصيب المجتمع بشحوب الألوان ثم تلاشيها وزوالها فزوالنا.
أذكر هذا لأننا منذ أيام نعيش فى أجواء «الثانوية العامة» التى مست غالبية البيوت المصرية بأفراحها وأحزانها، وفى الحقيقية فإنى أرى أن هناك مبالغة حقيقية فى اهتمام المجتمع بأمر الثانوية العامة، بالرغم من أنها حلقة متناهية الصغر فى رحلة الحياة الطويلة الممتدة والمليئة بالنجاحات والإخفاقات، لكن الأخطر من كل هذا هو سعى المجتمع المحموم لدفع الكثير من أخواتنا وإخوتنا من الطلاب إلى اختيار تخصص معين أو كلية معينة، باعتبارها طوق النجاة الوحيد وما دونها الضياع، ضاربين عرض الحائط بأهم شىء فى حياة الفرد العملية، ألا وهو الحب الشخصى لتخصص ما أو الاهتمام بمجال محدد.
عشرات الآلاف من الطلاب يهوون الأدب والفن والموسيقى، لكننا نخسرهم كل عام، لأن المجتمع تخيل أن هناك وصفة جاهزة للنجاح أو للحياة المثالية، وهى أن يصبح الطالب طبيبا أو مهندسا، وبهذا نخسر أدباء كثر وفنانين كبارا كل عام، لأن الموهوبين يبددون موهبتهم، فيما لا يهونه أو يفضلونه، ليستيقظ الواحد منهم فى نهاية الأمر وهو فى قلب «المعمل» محدثا نفسه: ما الذى أتى بى إلى هنا؟
عشرات الآلاف من الطلاب يهوون العمال اليدوية أو الحرفية، لكنهم يهجرون هذه الهواية، لأن المجتمع جعل «الاحترام» حكرا على أصحاب الجرافتات الخانقة، ولهذا يهرب الآلاف سنويا مما يحبونه ويفضلونه إلى ما يحبه المجتمع ويفضله، فنخسر سنويا عقولا شابة وأرواحا وثابة كان من الممكن أن تسهم فى اختراع آلة معينة أو تطوير أخرى، ليكتب اسم صاحبها بماء الذهب فى تخصصه، بدلا من أن يصبح رقما فى قائمة خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مثلا، مع كامل الاحترام لهذه الكلية المهمة.
للأسف نحن مرضى بالقالب، نسجن النجاح فى خيالات مرضية ونحرم المجتمع كل عام من ماء التجدد، فنجعل النجاح قاصرا على بضعة مجالات ضيقة، مثل الطب أو الهندسة أو كرة القدم أو التمثيل، ناسين أن بكل مهنة أو مجال من هذه المجالات عشرات الآلاف من الفاشلين الذين لم يحققوا أى نجاح يذكر، وناسين أيضا أن بالمهن الأخرى عشرات الآلاف أيضا من الناجحين الذين استطاعوا بصبرهم ومجهودهم ومثابرتهم وبحثهم أن يصبحوا علامة كبيرة فى حياتنا.