منذ أن أرسى كمال أتاتورك مبادئ العلمانية المتطرفة فى تركيا، وألغى كل مظاهر الإسلام من حياة الأتراك بحجة الحفاظ على تركيا الحديثة أعطى للجيش التركى دور القيادة والريادة والحراسة لمبادئه، ولما كانت فترة الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعنييات حافلة بالنشاط اليسارى من جهة والانقلابات العسكرية من جهة أخرى كانت تركيا من الدول التى اشتهرت بالانقلابات العسكرية المتتابعة، وبعضها كان سلميا يطلق عليه «الانقلاب الأبيض» وكان الجيش يكتفى بإرسال مذكرة إلى رئيس الوزراء يأمره بالتنحى، وهذا ما حدث مع سليمان دميريل الذى وصلته مذكرة الجيش فاجتمع بوزارته ثلاث ساعات أعلن بعدها قبول مذكرة الجيش واستقالة الوزارة حتى إن تركيا كانت تشهد انقلاباً عسكرياً كل 10 سنوات حتى منتصف الثمانينيات، فقد كان هناك انقلاب سنة 1960، أعقبه انقلاب سنة 1971، ثم انقلاب ثالث سنة 1980، ثم تباعدت المسافات بين الانقلاب والآخر فقد وقع الانقلاب الرابع بعد 17 عاما من الثالث أى سنة 1997 وكان انقلابا أبيض أى بدون ضحايا أو دماء، فقط أجبر الجيش التركى أربكان على ترك الحكم.
أما المحاولة الانقلابية الأخيرة التى وقعت منذ أيام فقد تمت بعد عشرين عاما من الانقلاب الأخير على أربكان، ويلاحظ فى هذا الأمر قلة معدلات الانقلابات التركية منذ التسعينيات، وقد فشل الانقلاب الأخير على أردوغان، وهذا الانقلاب العسكرى التركى هو أول انقلاب عسكرى يفشل فى تركيا، فضلا عن محاولة سابقة فاشلة أجهضها أردوغان مبكرا، وبعض هذه الانقلابات التركية كان عسكريا دمويا خلف عشرات القتلى ومئات المصابين وآلاف المعتقلين والمعذبين وبعض الإعدامات وآلاف المفصولين من وظائفهم، ففى انقلاب سنة 1960 تم إعدام رئيس الوزراء التركى عدنان مندريس، ووزير الخارجية ووزير المالية، وقد قام بالانقلاب ضباط موالون لأمريكا وحلف الأطلنطى ردا على عزم رئيس الوزراء مندريس على زيارة موسكو، أما انقلاب سنة 1980 فقد كان أكثر دموية، وقام به الجنرال كنعان إفرين، وكانت حصيلة الانقلاب اعتقال أكثر من نصف مليون شخص وإصدار أحكام بالإعدام على 517 شخصا.
والآن وبعد أن نجح أردوغان وحكومته فى وأد الانقلاب العسكرى الأخير إلا أن ذلك لم يمر بسلام على تركيا، حيث ستواجه تركيا حالة انقسام وصراع حادة بين حزب العدالة والتنمية وبين «جماعة الخدمة» بقيادة فتح الله جولن وكلاهما جناحان من أجنحة التدين والإسلام فى تركيا، فالعدالة والتنمية هو الجناح السياسى للتدين التركى، وجماعة الخدمة هى الجناح الاجتماعى لها، ومع إقصاء جماعة الخدمة من المجتمع التركى فسيطير هذا المجتمع بجناح واحد ولن يقف الأمر عند هذا الحد بل سيؤدى إلى ضعف الجيش التركى، ووجود حالة من الصراع الداخلى فيه، كما ستؤدى إلى عداوة مستترة وكامنة بين الجيش و الشرطة التركية.
سيخطئ أردوغان خطأ استراتيجيا إن عمم العقاب والأحكام على جماعة الخدمة أو أخذ العاطل بالباطل كما يقول المصريون فى أمثالهم الشعبية، وقد يؤدى ذلك إلى تحول بعضها إلى التطرف والعنف تحت مطرقة المظلومية التى ستحدث لها، وبالتالى فإن نجاح الانقلابات فى تركيا أو فشلها يضر بتركيا ضررا بالغاً. لقد ولى عهد الانقلابات فى كل مكان، ومن العار أن تعود الانقلابات العسكرية مرة أخرى إلى البلاد الحديثة المتطورة مثل تركيا مهما كانت الظروف، فالسياسة تعدل بالسياسة، والحكام يقومون عن طريق الانتخابات والديمقراطية، أما الانقلابات فهى شر مستطير فى حالة نجاحها أو فشلها.