لم يخترع جمال عبدالناصر أفكار الاشتراكية والتنمية المستقلة، لكنها كان يحاول ترجمة الأفكار التى صاغتها نخبة سياسية وثقافية وفكرية واقتصادية للاستقلال والتنمية، ويمكن التعرف على صورة مصر من كتابات طه حسين والمازنى ومصطفى مشرفة، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، بيرم التونسى، خاصة فى المرحلة بين الحربين الأولى والثانية، وكيف كانت الأزمات الاقتصادية تزلزل كيانات الطبقات الوسطى والفقيرة.
كان الفلاح والريف مظلومين ومهملين ويزدحمان بالفقر والجهل والمرض، رصدها يوسف إدريس فى «الحرام»، وخيرى شلبى فى «الوسية»، ولهذا كانت أول وأهم قرارات الثورة، فى عهد رئاسة محمد نجيب هى الإصلاح الزراعى الذى نقل ملايين الأسر من أعماق الفقر إلى سطح الحياة، ومثل نقلة حسمت موقف الشعب إلى مساندة الثورة.
أما عن الاقتصاد فقد كان عبدالناصر يبنى على جهود كبار السياسيين والمفكرين الاقتصاديين، وعلى رأسهم طلعت حرب «أبو الاقتصاد المصرى»، الذى كان أول من لفت النظر إلى أهمية إقامة مشروعات صناعية بأموال وأيدٍ مصرية، لم يكن طلعت حرب مجرد اقتصادى ورجل بنوك، لكنه كان مفكرا وطنيا يحمل هدف الاستقلال الوطنى فى شارك طلعت حرب فى ثورة 1919، وأسهم فى إنشاء «شركة التعاون المالى» بهدف إقراض المصريين، ووجدت دعوته دعما وتأييدا من المصريين، ونجح طلعت حرب فى تأسيس «بنك مصر» عام 1920، بهدف تحرير الاقتصاد المصرى من التبعية الأجنبية، ومن بنك مصر أنشا الشركات العملاقة التى تحمل اسم مصر مثل الغزل والنسيج بالمحلة، ومصر للطيران، والتأمين، والمناجم والمحاجر، والبترول، والسياحة، وستديو مصر، تعرض طلعت حرب لضغوط من القصر وسلطات الاحتلال الإنجليزى، وأجبروه على الاستقالة، فانعزل ومات عام 1941، لكنه وضع أسس الاقتصاد الوطنى.
كانت أفكار طلعت حرب، أساسا للتنمية بعد ثورة يوليو، والقاعدة التى بنى عليها عبدالناصر نموذج التنمية، ولعب حزب الوفد دورا كبيرا فى نقل التحديث ودعم انضمام أبناء الطبقى الوسطى والفقراء إلى التعليم والوظائف، وتكشف كتابات ونقاشات السياسيين أنهم لم يكونوا راضين عن الفقر والظلم واستئثار المحتلين وأصحاب الامتيازات بكل شىء.
كانت أفكار الإصلاح الزراعى والتأميم واستعادة الأملاك مطروحة، وإن لم تكن شائعة، وبالتالى فإن عبدالناصر عندما بدأ يلتقط أيديولوجية مناسبة، كانت الاشتراكية الأقرب لذلك، بل إن الاستقلال الاقتصادى والتنمية كانت تشغل مساحات واسعة وتحظى بتأييد ودعم المصريين، ولم يكن كل سكان الطبقات العليا يفتقدون للشعور الوطنى، بل كانت هناك جهود أهلية وخيرية لبناء مؤسسات وجامعات ومستشفيات، بل وحتى الروايات والأعمال التى صدرت بعد الثورة كانت تشير إلى اشتراكيين وليبراليين ثوريين داخل الطبقات العليا، ولهذا لم تكن أفكار عبدالناصر بعيدة عن أفكار المصريين فى الثلاثينيات والأربعينيات.