تلقيت كثيرا من التعليقات على مقال هموم الطبقة الوسطى الذى نشر هنا الأحد الماضى، وكان بعضها مناسبة طيبة لفتح نقاش ثرى، أظن أنه لن ينتهى، عن هموم ومستقبل الطبقة الوسطى خاصة فى ظل الغلاء والأزمة الاقتصادية الحالية، لكن ما أزعجنى فى بعض التعليقات هو الإصرار على فكرة موت الطبقة الوسطى بمعنى أنها اختفت من مصر ولم يعد لها حضور أو تأثير مادى أو معنوى.
قناعتى أنه لا يمكن التسليم باختفاء أو موت الطبقة الوسطى، لأن ذلك مخالف للطبيعة ويتعارض مع المنطق وتكذبه حقائق الحياة فى مصر، فالطبقة الوسطى بمعناها الواسع وشرائحها الدنيا والوسطى والعليا موجودة، ويرصد البحث العلمى الاجتماعى ظواهر حضورها وتأثيرها ومشاكلها، والأهم الانخفاض المستمر فى أعدادها وفى تأثيرها المادى والمعنوى فى المجتمع، وأقصد بانخفاض أعدادها أن آلاف الأسر من الشرائح الدنيا فى الطبقة الوسطى تهبط سنوياً إلى أحزمة الفقر، بدلاً من أن تصعد لأعلى أو تحافظ على مكانتها ضمن الطبقة الوسطى، وذلك نتيجة ثبات دخولها والانخفاض المتوالى لقيمة الجنيه والغلاء والتضخم، وبالتالى لا تستطيع الشرائح الدنيا أو المتوسطة فى الطبقى الوسطى الاحتفاظ بأنماط استهلاكها وإنفاقها المعتاد، ومن ثم تهبط لأسفل.
ويعنى هذا الهبوط الطبقى مزيدا من الإفقار فى المجتمع، ومزيد من تركز الثروة والسلطة بيد الطبقة العليا والشرائح العليا من الطبقة الوسطى. لكن مهما حدث من استقطاب بين الأغنياء والفقراء فى مصر فمن المؤكد أنه لن يقضى على الطبقة الوسطى، صحيح أن أعداد الطبقة الوسطى ستنخفض لكنها لن تختفى أو تموت.
وكان د. محمد سيد أحمد قد ناقش فى كتابه المهم عن الخطاب السياسى للطبقة الوسطى تقديرات حجم الطبقة الوسطى، وأشار إلى تقدير د. جلال أمين بأن الطبقة الوسطى تمثل %45 من السكان، بينما قدرها د. محمود عبد الفضيل بـ%48، وهى تقديرات مبالغ فيها من وجهة نظر أستاذ الاجتماع القدير محمود عودة الذى يرى أن الطبقة الوسطى لا تزيد على %25 من السكان، بينما يرى د. محمد سيد أحمد أنها فى حدود %35، وأنا شخصيا لا أثق فى كل التقديرات السابقة، خاصة أنها تستند إلى أرقام وبيانات قديمة تعود إلى ما قبل ثورة 25 يناير، كما أن البحث العلمى الاجتماعى وأقسام الاجتماع فى جامعاتنا فى أزمة هائلة منذ سنوات طويلة، حتى بات من النادر أن تظهر دراسات سوسيولوجية مهمة عن الطبقات فى مصر!!
والسؤال المحير كيف يكون %45 من السكان طبقة وسطى بينما تصل نسبة الفقر والفقر الشديد إلى حوالى %40، ما يعنى أن الطبقة الوسطى أكبر من الفقراء، وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض التقديرات الدولية ترفع نسبة الفقر والفقر الشديد فى مصر إلى %49 من السكان، أى تقريبا نصف المصريين. وبغض النظر عن دقة التقديرات السابقة وأزمة البحوث الاجتماعية فمن المؤكد أن لدينا طبقة وسطى تعانى ويسقط منها الكثيرون إلى أحزمة الفقر والحرمان.
لكن الظاهرة التى تحتاج إلى بحث سوسيولوجى غير تقليدى هى تهميش وتقزيم دورها الثقافى والفنى والسياسى لصالح الطبقة العليا وأثرياء الخليج، وهؤلاء يروجون لأفكارهم وأحكامهم القيمية والفنية وأنماط حياتهم بل لغتهم، صحيح أن أبناء الطبقة الوسطى هم الذين يعملون فى الإعلام والسينما والفن والأحزاب والهيئات التطوعية «المجتمع المدنى» لكن الطبقة العليا المصرية أو شركات ورجال أعمال من دول الخليج هم الذين يملكون ويديرون ويمولون الإنتاج والتوزيع فى الثقافة والفن والسياسة.
وبالطبع فإن لهؤلاء مصالحهم وذائقتهم الفنية وأحكامهم القيمية التى تختلف كثيرا عن الطبقة الوسطى المصرية والتى تعانى وأصبحت غير قادرة على المقاومة أو الصمود، فمن يملك يحكم فى الفن والسياسة والاقتصاد، والطبقة الوسطى بالتعريف لا تملك، لكنها فى مراحل تاريخية سابقة- ربما حتى التسعينيات- وبدعم من الدولة، كانت قادرة على إنتاج وتمويل فن وسينما وإعلام خاص بها، أما الآن فإنها أصبحت غير قادرة، وتعمل وتبدع على إيقاع أثرياء مصر والخليج، وبعض جهات التمويل الأجنبى.