مرة أخرى وليست أخيرة.. المنيا، مدينة الفقه والحداثة، مدينة الإصلاح الدينى والتشدد، مدينة السماحة والدماء، مدينة النور والظلام.. الأجيال الجديدة تعرف المشايخ الثلاثة: شكرى مصطفى، أسس فى «أبوقرقاص»، جنوب المنيا 20 كم، جماعة «التكفير والهجرة»، وقاتل وزير الأوقاف الشيخ الذهبى 1977، وخالد الإسلامبولى من ملوى، 50 كم جنوبًا، من مؤسسى جماعة الجهاد، وقاتل السادات 1981، والإرهابى القاتل الشيخ عاصم عبدالماجد من قرية دلجا، غرب ملوى، من مؤسسى الجماعة الإسلامية، والقاتل المحترف الذى قتل حوالى مائة جندى وضابط فى أحداث مديرية أمن أسيوط، والمسؤول عن القتل والحرق فى المنيا، بعد فض الاعتصامات الإرهابية فى رابعة والنهضة، الهارب فى قطر.
الأجيال الجديدة لا تعرف ثلاثة شيوخ أزهريين، من أقصى شمال المنيا، مغاغة آخر حدودها الشمالية، ولد ثلاثة فرسان أزهريين، الأخوان مصطفى وعلى عبدالرازق، وطه حسين.
فى البدء كان الشيخ على عبدالرازق «1885 1947» مفكرًا وأديبًا ومن المجددين بالأزهر، ومؤسس المدرسة الفلسفية العربية، تولى وزارة الأوقاف 1945، كأول أزهرى يتولاها، ثم اختير شيخًا للأزهر فى ديسمبر 1945.
الشيخ على عبدالرازق، صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم 1925، والذى أغضب الأزهر، ومن أجله سحب من الشيخ على شهادة عالمية الأزهر، ذلك الكتاب الذى أكد فقهيًا انتهاء وانتفاء زمن الخلافة، وكلاهما، مصطفى وعلى، تربى فى بيت وطنى، والدهما حسن عبدالرازق، أول من أسس جريدة فى المنيا، ومن مؤسسى حزب الأمة، ومن تلاميذ الإمام محمد عبده.
حاكم الأزهر على عبدالرازق لرفضه فكرة الخلافة، وقامت هيئة كبار العلماء، وفصلت الشيخ على من زمرة العلماء ومن القضاء، ووافق على ذلك الملك فؤاد، لأنه اعتبر أن كل الحكومات بعد الخلفاء الراشدين لا دينية!
ومن المركز ذاته، مغاغة، ولد الأزهرى المصلح الثالث طه حسين 1889، فى قرية الكيلو، 1902 دخل الجامع الأزهر، وتلقى العلوم الدينية، وانتقل إلى الجامعة الأهلية 1908 «القاهرة الآن».. 1914 حصل على الدكتوراة «فى ذكرى أبى العلاء المعرى».
واتهمه أحد أعضاء البرلمان حينذاك بالزندقة، وبعد عودته من باريس 1915 دخل فى معارك فكرية عديدة، وعُين عميدًا لكلية الآداب، وكان من أبرز كتبه ومعاركه كتاب «فى الشعر الجاهلى» 1926، الذى أثار جدلًا عنيفًا، وقُدّم للمحاكمة وبُرّئ منها.
طه حسين، صاحب أول فكرة عن مجانية التعليم، وكان شعاره «التعليم كالماء والهواء» وحينما عُيّن وزيرًا للمعارف «التعليم» طبقت للمرة الأولى فى تاريخ مصر مجانية التعليم.
المثير للجدل أن المشايخ الثلاثة القتلة ليسوا أزهريين، ومن مواليد ما بعد 1952، وتعليمهم «مدنى».. شكرى مصطفى درس الثانوى فى أبوتيج بأسيوط، وخالد الإسلامبولى درس الثانوى فى ملوى، ثم التحق بالكلية الحربية، وعاصم عبدالماجد درس الثانوى فى المنيا، ثم كلية هندسة المنيا، وداخل السجن درس التجارة، جامعة أسيوط، وحصل على الماجستير فى إدارة الأعمال!
القتلة الثلاثة لم يسافر أحد منهم خارج البلاد، ماعدا عاصم عبدالماجد حينما هرب إلى قطر، فى حين أن المشايخ العظام المصلحين الأزهريين، مصطفى وعلى عبدالرازق وطه حسين حصلوا على دراساتهم العليا من السربون بباريس!
القتلة الثلاثة لم يمارسوا العمل السياسى إلا من خلال التنظيمات الدينية، فى حين أن آل عبدالرازق من بيت منتسب إلى حزب الأمة، الذى تأسس فى مطلع القرن العشرين من عباءة الإمام محمد عبده فى مطلع القرن ومطلع الحداثة والتنوير، ثم انتمى ثلاثتهم مصطفى وعلى عبدالرازق وطه حسين إلى فخر الأحزاب الليبرالية «الأحرار الدستوريين».
الفرسان الأزهريون السربونيون جمعوا بين التعليم الدينى والمدنى، وأجادوا اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية واليونانية والتركية، والثلاثة مشايخ الدم لا يجيدون أى لغات سوى لغة الدم.
المشايخ الفرسان الأزهريون تتلمذوا على فقه التجديد للإمام محمد عبدة، وتنوير فولتير، ومشايخ القتل تتلمذوا على فقة التكفير لسيد قطب.
هكذا من شمال المنيا، ومن رحم الأزهر انبعث النور من عباءة محمد عبدة ورداء فولتير، وإلى جنوب المنيا خرج فكر التكفير لسيد قطب، وابن تيمية، وسالت الدماء.. تلك هى المنيا التى لا يعرفها أحد.