فى ذكراه قولوا معى ..مدد يا عم نوح مدد

كنا نلتقى فى منزله، أو للحق صومعته الكائنة على سطح المنزل، يجلس بيننا كشيخ صوفى وسط مريديه، يستمع إلينا أكثر مما يتكلم، يطرح السؤال بسيط العبارة عميق المعنى، الملغز والمربك فى تفسيراته، لننفجر نحن بعدها فى نقاش حام، لا يفضه إلا سؤال آخر من الحكيم نوح أو قطعة من موسيقى يختارها من صندوق كنوزه، وغالباً ستكون لخالد الذكر سيد درويش، وما أدراك ما سيد درويش بالنسبة لمحمد نوح، وما أدراك بما يعرفه نوح من أسرار السيد درويش اللحنية!

لكن أكثر ما يلح علىَّ من مخزون ذكرياتى مع نوح ولقاءاته، هو ذلك الإحساس الذى كان يضفيه على جلستنا الشهرية فى صالونه (السطوحى) وهو إحساس يشبه كثيراً أجواء حلقات الذكر ، بما تشيعه فى النفس والعقل من راحة. فنوح إلى جانب تميزه بسمات فنية وإنسانية عديدة، إلا أنه أبهرنى طوال السنوات القصيرة التى عرفته فيها، بتعدد اهتماماته، علمية، دينية، سياسية، وفنية بتنوعها. وكان يفاجئنا فى كل جلسة بضيف جديد يحاضرنا فى موضوع من هذه الموضوعات ونتداخل نحن معه باتفاقات واختلافات تثرى اللقاء الذى دائماً ما يختتم ختاماً مسكاً متمثلاً فى قصيدة شعر أو عزف على عود، أو سلطنة استماع لتوزيعات جديدة لأعمال الدرويش خالد الذكر.

نوح أيضاً، كان متفائلاً عظيماً بقدرة هذا البلد وناسه، ولعلها لم تكن مصادفة أبداً أن يكون هو صاحب " شدى حيلك يا بلد" التى غناها فى أحلك لحظات الوطن، وفى مكان لم تطأه من قبل قدم مطرب وهو إستاد ناصر.

تفاؤل نوح لم يكن من ذلك النوع الساذج الأهبل المبنى على أوهام ميتافيزيقية، ولكنه كان مدعوماً بدراسة تاريخ هذا الوطن وشعبه، وبقدرتهما على تخطى صعاب كثيرة أشد وأخطر مما مررنا ونمر به نحن.

لذلك كانت جلساتنا مع نوح وصحبه، بمثابة رئة ننفث فيها دخان غضبنا وتحليلاتنا المتعصبة أحيانا، ولنعبئها بهواء آخر نظيف يعيننا على مواصلة الحياة حتى موعد اللقاء التالى.

وهنا لابد لى من اعتراف، سبق وأن بحت به لنوح بعد الجلسة الأولى التى اصطحبنى إليها صديقى الشاعر خالد النشوقاتى، فيومها قلت لنوح وهو يودعنا على باب صومعته السطوحية: "هل تعرف يا فنان أننى رغم إعجابى بفنك لم أكن أحبك".. فانطلقت قهقهة طفولية من فم نوح ارتج لها جسده كله، وقال: "المهم أنك أحببتنى الآن" وأضاف: "لكن لماذا كنت تكرهنى؟!.. فضحكت بدورى وقلت: "سمعتك يوماً تذكر عبد الناصر بسوء.. لكنى اليوم عرفتك أكثر.. وفهمت أنه لم يكن كرهاً بقدر ما كان غضباً من ابن على أبيه الذى كان ينتظر منه أكثر".

منذ هذا اليوم صار نوح وجلسته بالنسبة لى موعداً مقدساً. لا أغيب عنه إلا لظرف قاهر. وحتى بعد مرض نوح الأخير لم نكف عن اللقاء الذى انتقل من غرفة السطح إلى غرفة نومه فى الطابق الأسفل، حتى جاء خبر رحيله، ليضيف إلى القلب المثخن جرحاً جديداً.

محمد نوح هو أحد الهامات الموسيقية التى ظلمت ظلما بيناً فى عصر تطاول فيه التافهون وحاصروه فى أغنية وحيدة هى " شدى حيلك يا بلد "، وتجاهلوا عمدا أنه صانع روائع موسيقية لن يتسع المجال هنا إلا لذكر بعض عناوينها لعلها تكون دعوة للمتخصصين أن يحدثونا أكثر عن تفاصيلها الفنية وعناصر جرأتها ، أذكر منها أفلام " إسكندرية كمان وكمان " و " المهاجر " و " مرسيدس " ومسرحية "كاليجولا " التى أخرجها يوسف شاهين لفرقة " الكوميدى فرانسيس " مشترطا عليهم هناك أن يكون نوح هو واضع موسيقاها ..... هذا بعض منه ، فابحثوا عنه ، واكشفوا عن خبيئته قبل أن يأكلكم التراب ..واذكروه بال " مدد" ... مدااااد يا عم نوح مدد .







الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;