كان موسى بن أبى الغَسَّان آخر سطر فى سفر الحق والبطولة والمجد؛ ذلك الذى كتبه العرب المسلمون فى ثمانمائة سنة، فمحاه الإسبان فى سنوات، ولم يبق إلا هذا السطر، فإذا طمس ذَهب السفر وباد، وقد كان موسى آخر نفسٍ من أنفاس الحياة فى الأندلس المسلمة؛ فإذا وقف هذا النفس الواحد، صارت الأندلس المسلمةُ أثرا بعد عين، وصارت ذكرى عزيزة فى نفسِ كل مسلم، وأمانة فى عنقه إلى يوم القيامة.
ووصل موسى، ذلك البطل الذى أخطأ طريقَه فى الزمان، فلم يأت فى سنوات الهجرة الأُولَى، بل جاء فى الأواخر من القرن التاسع، ولم يطلع فى الحجاز التى كانت تبتدئ تاريخها المجيد، بل فى الأندلس التى كانت تختم تاريخها.. وكانت تعلوه كآبة، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذى لو سبق به الدهر لَصنع يرموكا أُخرى أو قَادسية ثانية.
فإِذا هو يعلن النبأَ المهول، نبأ تسليم أبى عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة! نبأٌ بدأ صغيرا كما تبدو المصائب، فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أَثَر هذا وما خطَره، ولكن القرون الآتيات ردت ما أَثَر هذا النبأ، ولم تفرغ إلى اليوم من وصف فواجعه وأهواله.
كان قلب موسى يدمى وهو يشهد تسليم غرناطة المسلمة إلى ملوك النصارى، وكان أكثر ما يؤلمه ذلك التخاذل والضعف لدى الخاصة والعامة، ويحس بالعجز إزاء الأحداث الرهيبة المتلاحقة، وحين اجتمع الزعماء والقادة ليوقعوا وثيقة التسليم فى بهو الحمراء لم يملك الكثيرون منهم أنفسهم من البكاء والعويل، فصاح موسى فيهم قائلا: «اتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع، ولكن لتقطر الدماء، وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعا عنها».
ثم صمت موسى وساد المجلس سكون الموت، غدا نعرف ماذا كان رد آخر ملوك الأندلس عبد الله الأحمر للقائد موسى.