يبدو أن كل نظام فى مصر منذ عهد الرئيس عبد الناصر يرزقه الله بمجموعة من العباقرة يتفننون فى توريطه فى معارك لا داعى لها، وإكسابه عداءات لا فائدة منها، وهو ما تفعله الحكومة الآن للأسف بالتحديد فى مشروع (القانون الموحد للصحافة والإعلام) الذى من المفترض عرضه على مجلس النواب قريبا.
فدون داعٍ.. شرعت الحكومة فى إدخال تعديلات غير مقبولة ضمن مشروع القانون، بعد التوافق على كل مواده مع (نقابة الصحفيين) على مدار 18 جلسة كاملة، فى حضور ممثلين عن اللجنة الوطنية للتشريعات، ووزارات العدل، والشئون القانونية، والتخطيط، والجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، ومجلس الدولة.
وخرج الجميع بعدها بمشروع توافق عليه الجميع، إلا أن (عباقرة توريط النظام) خرجوا بمسودة القانون، الذى تم إرساله إلى مجلس الدولة، بصيغة مغايرة تمام لما تم التوافق عليه، وكأنهم يتعمدون إحراج النظام، وإدخاله دون داعٍ فى معركة لا داعى لها مع الجماعة الصحفية، التى أغضبها التغيير اللا معقول لما تم التوافق عليه، والذى يعصف بكامل الحريات التى ناضل من أجلها الصحفيون لعقود، واستطاعوا انتزاعها من أنياب نظام مبارك.
ويبدو أن (عباقرة توريط النظام) لم يستوعبوا للآسف أن الحكومة يجب أن تبحث فى كل مشروعات القوانين التى تقترحها عن الأفضل لصالح كل الفئات، وإنه لا النظام ولا الحكومة حالة عداء مع الصحافة أو الصحفيين، وأنها بتلك التشريعات تعود بالصحفيين إلى الوراء لعقود، فى الوقت الذى يطمحون فيه إلى مزيد من التشريعات التى تتيح مساحات أكبر من حرية النشر والتعبير، لا العودة إلى الوراء والتهديد بالحبس والتفتيش وغيرها من الإجراءات التى تتعمد توريط النظام.
فعلى الرغم من النضال الذى خاضه الصحفيون على مدار عقود، من أجل إلغاء عقوبة (الحبس الاحتياطى) فى قضايا النشر، والنص على ذلك صراحة فى الدستور المصرى الجديد، عاد مشروع القانون الجديد فى (مادة 38) ليفتح المجال لحبس الصحفيين من جديد، بعد تعديل المادة التى تم التوافق عليها خلال الاجتماعات، فى خطوة تعكس تراجعا عما كفلته كل القوانين الحالية وتعديلاتها، من إلغاء للحبس الاحتياطى فى جميع جرائم النشر، كإحدى الضمانات لحرية الصحافة والنشر والتعبير، والتحول لعقوبة يساء استخدامها لتقييد حرية الصحافة.
وبتفكير غريب للغاية، لا يمكن تفسيره سوى أنه يهدف إلى إثارة الجماعة الصحفية، وفتح المجال لتأويلات لا مجال لها، حذفت الحكومة أيضا (المادة 45) من مشروع القانون الذى تم التوافق عليها، والتى كانت تنص على أنه (لا يجوز تفتيش مكتب أو مسكن الصحفى أو الإعلامى بسبب جريمة من الجرائم التى تقع بواسطة الصحف أو وسائل الإعلام، إلا بواسطة أحد أعضاء النيابة العامة)، وهو ما قد يفتح المجال لكثير من الممارسات غير المقبولة ضد الصحفيين.
ولعل الغريب فى الأمر أن مشروع القانون الذى توافقت عليه الحكومة والجماعة الصحفية كان أكثر مهنية، ويمنع الاحتكار فى العمل الإعلامى، ويعالج ما تشكو منه الحكومة والمجتمع من انفلات فى وسائل الإعلام، وكان يهدف إلى إدارة المؤسسات بشكل أكثر ديمقراطية، ويحمى المجتمع من الاحتكار، إلى جانب أنه غلب المنتخبين على المعينين، وفصل الملكية عن الإدارة.
اعتقد أن الكرة الآن فى ملعب مجلس الدولة، الذى يحوى تاريخه عشرات الأحكام التاريخية المساندة لحرية الصحافة والتعبير، ويعى أن للشعب الحق فى المعرفة، وأثق أنه لن يترك عوارا فى قانون يعصف بحريات، أو يخالف نصا دستوريا صريحا، ولن يقبل بما خرج به (عباقرة توريط النظام).