الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الذى أصدر أوامره بإسقاط طائرة حربية روسية فى أواخر نوفمبر الماضى ووجّه وابلاً من الإهانات إلى نظيره الروسي، يسمّى الآن الرئيس فلاديمير بوتين "صديقه العزيز".
لا بد من أن بوتين يبتسم فى سرّه، لكنه يلعب لعبة الصداقة المثيرة للضحك هذه لأنها تصبّ فى مصلحته. فهو يدرك أن احتضان الأتراك له يؤدّى إلى تشنّج العلاقات بين أنقرة وحلفائها الغربيين. وبحسب وجهة نظره، كل ما يساهم فى إضعاف حلف شمال الأطلسى (الناتو) يمثل نقطة إيجابية لمصلحته.
يدرك الثعلب الروسى الماكر بالتأكيد أن انتقامه من تركيا على المستوى الاقتصادى بعد حادثة إسقاط الطائرة – فضلاً عن قيام روسيا بنشر نظام صواريخ أرض-جو متطور على الأراضى السورية والذى يتسبّب بعرقلة الحملة التى تشنّها تركيا ضد المجموعات الكردية – كان السبب وراء الجهود التى يبذلها أردوغان لكسب الودّ الروسي.
قبل بضعة أيام، وصل وزير الخارجية التركى مولود جاووش أوغلو إلى طهران من أجل إبرام ميثاق تعزيز التعاون بين تركيا وإيران وروسيا لإنهاء النزاع فى سوريا على الرغم من أن الدول الثلاث كانت تسلك حتى تاريخه مسارات متناقضة فى الملف السوري.
على غرار الرئيس الأمريكى باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيرى اللذَين تفوّق عليهما بوتين بالحيلة فى سوريا، وهذا أمر معيب، توقّف أردوغان عن الإصرار على وجوب رحيل الرئيس السورى بشار الأسد، ولم يعد يطالب بانسحاب إيران ومجموعاتها الإرهابية.
لقد اختفت حماسته للعمل من أجل سوريا حرة متحررة من نير أحد الأنظمة الأكثر همجية فى التاريخ المعاصر، وحلّ مكانها عزمه على إبادة الأكراد السوريين والعراقيين الذين تجمعهم روابط بـ"حزب العمال الكردستاني" الانفصالي، بما فى ذلك الأكراد الذين تمدّهم الولايات المتحدة بالسلاح والمشورة لمواجهة "الدولة الإسلامية".
من قبيل الصدفة أو ربما ليست صدفة، شنَّ سلاح الجو السوري، فى الأسابيع الماضية، حملة قصف ضد البلدات والمدن الخاضعة لسيطرة "وحدات حماية الشعب" الكردية فى شمال البلاد على الرغم من التحذيرات الأمريكية، ما يدفعنا إلى التساؤل إذا كانت هذه الهجمات قد شُنَّت بناءً على طلب تركيا.
أقل ما يُقال هو أن هذا المحور الوليد يشكّل مصدر قلق كبيراً لحلفاء تركيا فى حلف الناتو، ولأحد أصدقاء أردوغان المفضّلين الجدد، رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. لقد بذل أردوغان، فى الأشهر الأخيرة، قصارى جهده لرأب الجسور مع إسرائيل متراجعاً عن التعهّد الذى كان قد أطلقه بوجوب رفع الحصار عن غزة قبل استئناف العلاقات بين البلدَين.
رحّبت إسرائيل بالانفراج فى العلاقات مع دولة حليفة للولايات المتحدة، لا سيما دولة ذات آلة عسكرية قوية كانت تعمل بشكل وثيق مع أمريكا وبعض من دول مجلس التعاون الخليجى والأردن لتطهير سوريا من نظام الأسد ومن الجماعات التى تقاتل إلى جانبه، أى الحرس الثورى الإيرانى وميليشيات "حزب الله"، فضلاً عن إرهابيى "الدولة الإسلامية".
لكن الآن بعدما انتقلت أنقرة، على ما يبدو، إلى الجانب الآخر، وانضمّت إلى جبهة روسية-شيعية تعمل على إبقاء الأسد فى السلطة، لا شك فى أن هذا سيسدّد ضربة قاضية لتلك الشراكة المتجدّدة مع إسرائيل والقائمة على تشارُك الاستخبارات.
وفى الوقت نفسه، تدهورت العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة. تُظهر استطلاعات الرأى أن غالبية الأتراك، بما فى ذلك من يتولّون مناصب رفيعة فى الحكومة ووسائل الإعلام، يعتقدون أنه إما كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سى آى أيه) على علم بوقوع الانقلاب وإما كانت المحرِّضة بالتعاون مع الداعية والملياردير فتح الله غولن الذى يعيش فى المنفى الطوعي. كان قرع طبول الاتهامات مُصِمّاً للآذان إلى درجة أن الرئيس أوباما شعر وجد نفسه مضطراً إلى إصدار نفى علنى بأنه ليست للولايات المتحدة أى علاقة بالأمر.
يريد أردوغان رأس عدوّه اللدود على طبق، وإذا رفضت الولايات المتحدة تقديمه له بسبب غياب الأدلّة الدامغة، لا يهدّد الرئيس التركى فقط بحدوث تدهور فى العلاقات بين البلدَين، بل أيضاً بمنع استخدام الولايات المتحدة لقاعدة إنجرليك الجوّية لأغراض عسكرية.
وقد سبق أن اختبرت واشنطن التى تحتفظ بأسلحة نووية تكتيكية فى قاعدة إنجرليك، التداعيات التى يمكن أن تترتّب عن إغلاقها. ففى يوليو الماضي، أغلقت أنقرة المجال الجوى فوق إنجرليك، وبحسب العديد من وسائل الإعلام، بما فيها صحيفة "جيروزاليم بوست"، احتُجِز "1500 عنصر فى سلاح الجو الأمريكى مع عائلاتهم" داخل القاعدة فيما كان محتجّون أتراك مناهضون للولايات المتحدة يدوسون الأعلام الأمريكية فى الخارج. والآن يطالب أعضاء مجلس الشيوخ والمعلقون الأمريكيون نقل نحو 50 سلاحاً نووياً إلى خارج البلاد نظراً إلى المخاطر المحدقة بها.
إزاء هذا الوضع، يمكن أن تسلك التطورات واحداً من مسارَين اثنين. حتى الآن، يبدو أن إدارة أوباما تميل إلى الانصياع لمطالب أردوغان. من المزمع أن يزور نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن أنقرة يوم الأربعاء؛ وقد صرّح أنه من المقرر أن تتصدّر قضية غولن جدول الأعمال المطروح للنقاش. وكذلك سوف يتوجّه مسؤولون من وزارتَى الخارجية والعدل الأمريكيتين إلى تركيا قريباً لمتابعة التحقيقات.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنه فى حين وجّه رؤساء الدول فى الاتحاد الأوروبى انتقادات علنية إلى تركيا على خلفية نزعتها التى تزداد سلطوية، وحملات التطهير التى تشنّها بلا هوادة، وسعيها إلى إعادة العمل بعقوبة الإعدام، كانت عبارات الشجب من البيت الأبيض خجولة لا بل معدومة.
يلمّح بعض النقاد إلى أن التحوّل فى موقف أردوغان من روسيا وإيران هو مؤامرة الهدف منها حصوله على نفوذ أكبر فى علاقته مع الولايات المتحدة والناتو. ويقول آخرون إنه يحاول السير على حبل رفيع لأنه لا يرغب فى حرق أوراقه بالكامل مع القوى الغربية وحلفائها العرب السنّة لكنه حريص فى الوقت نفسه على التحوّط فى رهاناته عبر الالتحاق بالمعسكر الذى تقوده روسيا.
قبل وقت غير بعيد، كان أردوغان يحظى بحفاوة شديدة فى دول مجلس التعاون بوصفه قائد بلد شقيق، شخصاً يمكن الوثوق به ليقف مع العالم العربى السنّي. غير أن تحالفاته الجديدة الغريبة وانعطافاته الصادمة بدأت تبدو وكأنها طعنة فى الظهر.
هذا السيناريو الجيوسياسى المقلق، ناهيك عن الفظائع المستمرة التى يتعرّض لها السوريون الذين لا حول لهم ولا قوة، ليست ناجمة فقط عن قيادة أوباما الضعيفة إنما أيضاً عن عدم استعداد القادة العرب للوفاء بوعودهم وإنقاذ الشعب السورى من الديكتاتور وأزلامه فى "حزب الله".
لا يمكننى أن أحصى عدد المقالات التى ناشدت فيها دول مجلس التعاون الخليجى و/أو الجامعة العربية قطع رأس الأفعى قبل أن يصبح أضعافاً مضاعفة. ضقت ذرعاً من إصدار التحذير تلو الآخر والتى تذهب كلها أدراج الرياح. لطالما ردّدت أن الولايات المتحدة ستعقد صفقة كبرى مع إيران ذات يوم فى وقت كان هذا الاحتمال يبدو بعيد المنال.
بصراحة، نفتقر إلى الالتزام فى سوريا كما فى العراق حيث تقوم ميليشيات موالية لإيران وتحظى بموافقة الحكومة، بذبح السنّة وتدمير منازلهم وأعمالهم.
أما موسكو من جهتها فقد تحلّت بالالتزام. قرن بوتين القول بالفعل موظِّفاً أمواله وسلاحه الجوى تحقيقاً لمآربه، وربما خُدِع أردوغان للالتحاق بالجهة التى يعتقد أن الفوز سيكون حليفها.
يقشعرّ بدنى إزاء المسار الذى سلكته الأمور. يصافح أوباما الأئمة المتآمرين الضالعين فى حمام الدم السوري، ويصف السعودية وسواها من الدول السنّية بالاستغلاليين، وقد اختار سحب المستشارين العسكريين الأمريكيين الذين يعملون مع قوات التحالف الذى تقوده السعودية فى اليمن فيما ينظر المشترعون الأمريكيون فى التصويت لحظر مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية. أضف إلى ذلك المحور التركي-الروسي-الإيراني-السورى فيصبح واضحاً تماماً أن غيوماً تتكدّس فى الأفق وتنذر بعاصفة قوية.
متى سنتعلّم دروس الحياة والموت! إما تُقضَم الدول العربية السنّية جغرافياً أو يُلقى بها فى أتون الصراعات المذهبية أو يجرى إضعافها اقتصادياً. هل هذا كله جزء من مخطط أكبر لتدمير السعودية ودول الخليج ومصر والأردن؟ إياكم والاعتقاد أنهم لن يحاولوا ذلك، لا سيما الآن بعدما ابتعدت تركيا عن الكتلة العربية السنّية غير الرسمية! لا يهتم الغرب سوى بتحقيق مصالحه الخاصة، وبفضل أوباما، حصل الملالى على جرعة كبيرة من الزخم والتعويم.
أخشى أن هذا كله يحصل تحت المظلة الأمريكية. الأمر معقّد، وثمة خفايا كثيرة، لكن الأحجية، غير المكتملة بالتأكيد، تشير فى ذلك الاتجاه. سوف ينكشف الأمر فى الوقت المناسب.
مجدداً، أناشد قادتنا عدم الوثوق بأحد وعدم التعويل على أى دولة ما عدا الدول التى تدور فى فلكنا وتُشاركنا رؤيتنا ومخاوفنا. يجب أن تتحرك دول مجلس التعاون الخليجى وحلفاؤها الأقرب بطريقة استباقية ديبلوماسياً وعسكرياً. ماذا حلّ بالقوة العربية المشتركة مثلاً؟ يقول وزير الخارجية المصرى سامح شكرى إنها قيد الإنشاء، لكن لماذا تستغرق كل هذا الوقت كى تبصر النور؟
كفانا سيراً من دون وعى نحو الجحيم الذى يجرى تحضيره لنا! ينبغى علينا تعزيز قدراتنا الدفاعية، وتوحيد جيوشنا، وفى حال الاقتضاء، تجهيز بزّاتنا العسكرية. عندما نبدأ بالاعتماد على أنفسنا بدلاً من التمسّك بأهداب الأمريكيين، نصبح نحن وأحبّاؤنا أكثر أماناً.