نسمع كثيرًا فى هذه الأيام بين الخاصة والعامة عن موضوع "تجديد الخطاب الدينى" وضرورة تحمل المؤسسة الدينية تبعت هذا التجديد، وأنه بتحقيق هذا الأمر ترجع الأمة المصرية والعربية إلى سالف عهدها فى تميزيها بالمنهج العلمى المستنير والمشرب الوسطى الذى يعمر ولا يدمر ويبنى ولا يهدم، ويجعل محور اهتمامه بناء الإنسان من حيث عبادة الله، وعمارة الكون، وتزكية النفس.
وأنا لا أختلف فى أهمية تجديد الخطاب الدينى والعمل على إحياء أركانه، لا أقول من خلال المؤسسة الدينية فحسب، وإنما بالتعاون بينها وبين المؤسسات المعنية بثقافة الإنسان وتعليمه وتوجيهه والحفاظ على عقله وكرامته.
ولكنى أرى قبل الحديث عن تجديد الخطاب الدينى لابد أن ندعو، وبحسب التسلسل المنطقى، ومن باب تقديم المقدمات على النتائج، أن نهتم أولا ونحرص ونتعاون على " تجديد التفكير الدينى "، وذلك باعتبار أن قطاعًا من الأمة ليس بالقليل قد اعتوره خلل وانحراف فى طريقة تفكيره قبل أن يصيبه الشطط والتشدد فى خطابه الديني؛ إذ التفكير يسبق مرحلة الخطاب، والانشغال بالمسبوق (الخطاب) قبل السابق (التفكير) يعد من قبيل علاج العرض وليس المرض، مما يؤدى إلى الخلل فى المنهج والعلم والتطبيق.
إن الخلل قد أصاب بعض العقول المتشددة والمنحرفة فى المراحل الثلاث المتتالية ( التفكير والفكر والخطاب ) خاصة تلك المتعلقة بالجانب الدينى وفهم النصوص الشرعية؛ إذ كل خلل فى التفكير يؤدى إلى انحراف فى الفكر ثم إلى زيغ فى الخطاب، ولذلك كانت الأولوية فى معالجة الحالة الدينية من خلال المسائل التى يطرحها ذوو الفكر المتطرف بتناول قضية "تجديد التفكير الدينى" أولاً قبل الفكر أو الخطاب؛ إذ الخطأ فى المنهج أو الأدوات يؤدى إلى الخطأ فى الثمرة أو الغايات.
ولذلك لم ترد كلمة الفكر بمعناها المصدرى - الذى هو الحدوث- فى القرآن الكريم، وإنما ورد التفكر الذى يعنى إعمال العقل وأدوات الفهم فى تناول النصوص الشرعية، ومن ذلك قول الله تعالى :(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل:44]. وتكرر فى القرآن قوله سبحانه: (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ؛ وقد التفت الأستاذ عباس محمود العقاد لأهمية قيمة التفكير؛ فألف كتابه الماتع ( التفكير فريضة إسلامية ).
وليس الترتيب المنطقى وحده هو الذى دعانى للدعوة إلى (تجديد التفكير الدينى) قبل (تجديد الخطاب الدينى) بل إنى وجدت أن بعضًا ممن يُعرفون بالخطاب الوسطى تسرب إليهم شيءٌ من لوثة التفكير المتشدد والمنحرف، فوقفت عند ذلك مليًّا وخشيت بل أدركت أننا بعد فترة ليست بالطويلة لن نعانى فقط من ذوى الخطاب المتشدد، وإنما سنجد فريقًا ممن كانوا يتسمون بالخطاب الدينى المعتدل قد انحرفوا عن الجادة ونتج عنهم خطاب دينى معوج ومتشدد، نظرًا لفقدهم بوصلة التفكير الصحيحة والمنضبطة بنور العقل وقواعد العلم الصحيح، وهم ما يمكن أن نسميهم بأصحاب الخطاب المتشدد الإرهابى ولكنهم يبدون فى زى ذوى المنهج الوسطي، بمعنى أنهم يتشحون بزى صحيح ولكن إنتاجهم يحمل كل قبيح.
ومسئولية "تجديد الفكر الدينى" لا تقف عند المؤسسة الدينية فحسب، وإن كان لها النصيب الأوفر فى هذا، بل يتحمل عبئها معها المفكرون والمثقفون والمبدعون فى شتى المجالات سواء أكانوا أفرادًا أو مؤسسات، المهم أن تتكاتف الجهود فى الحفاظ على هوية الأمة وترسيخ قواعد بناء الإنسان فيها بتصحيح التفكير أولًا، لينصلح الفكر ثانيًا، فيستقيم الخطاب ثالثًا. إن تجديد التفكير يحفظ من التكفير.
هذا عن التفكير؛ فماذا عن التجديد ؟!