غالبا ما أقيس أهمية الكتاب الذى أقرأه بما يفجره داخلى من أسئلة وليس بما يطرحه من إجابات، وأمتع الكتب بالنسبة لى هى تلك الكتب الناقصة التى لا تجيب عن أسئلتى كلها، وإنما تشحن طاقات البحث المعطلة لأبدأ فى رحلة البحث الشاقة الممتعة، وكذلك الحال أيضا بالمؤتمرات التى أحضرها أو أتابعها، فنجاح المؤتمر بالنسبة لى يقاس بمدى مقدرته على وضعى فى موضع التلميذ كثير الأسئلة، وهو الأمر الذى نجح فيه مؤتمر مكتبة الإسكندرية المهم «مستقبل المجتمعات العربية» الذى أعدته المكتبة كبادرة منها لفتح باب السؤال عن المستقبل بأسلوب علمى رصين، بعيدا عن التخمينات الطائشة، والنتائج الجاهزة.
لا أعرف لماذا لم تغب عن ذهنى فكرة «العرافة»، وأنا أتابع هذا المؤتمر الرصين، ولا أعرف لماذا تخيلت أن الكثير من العلماء الذى ألقوا محاضراتهم فى قاعات مكتبة الإسكندرية يمارسون نوعا من «العرافة» واستكشاف المستقبل، لكن ليس على أساس غموضى مبهم، وإنما عن أساس علمى منهجى متحصن بالمعرفة، ومزود بالإحصائيات، وفى حين أن العرافين يصبون معظم اهتمامهم على النبوءة النهائية، فإن هؤلاء العلماء لا يشغلهم سوى وضع «التصورات» والاجتهاد فى الاستقراء.
نعم «علم المستقبليات» يكاد يكون علما «غريبا» عن عالمنا العربى، ويحمد لفريق بحث مكتبة الإسكندرية وعلى رأسهم الدكتور إسماعيل سراج الدين، والدكتور خالد عزب اهتمامهم بهذا العلم المهجور فى حياتنا الثقافية، لكنى مع هذا تخيلت أننا من الممكن أن نراجع نبوءات العرافين القدماء من المصريين والعرب على حد سواء لنضع أساسا تاريخيا لهذا العلم المستجد، فعراف شهير كثابت بن قرة «الصابئى» مثلا كان معروفا عنه هوسه بالعلوم الفلكية، واجتهاده فى حساب الأيام والسنين وفق التقويم الشمسى، وهو علم فى الأساس مستمد من العلوم المصرية القديمة التى كان يتقنها كهنة آتوم ورع وآمون وآتون، وهم فى كل الأحوال علماء أجلاء كانوا يعتمدون على الحسابات الفلكية فى عملهم، لكن المجتمع كان يفرض عليهم هذا البعد الأسطورى، لأن الأسطورة وحدها كانت المتحكمة فى غالبية شئون الحياة، أما الآن فنحن فى عصر العلم، ومن هنا تنبع أهمية «علم المستقبليات» الذى يشغل العالم أجمع لكنه، للأسف، لا يشغلنا، ومن هنا يجب على جميع الجامعات المصرية أن تعتنى بهذا العلم المتشعب، فلا مستقبل بلا خيال، ولا خيال بغير معرفة، ولا وجود الآن للعرافين المسلحين بالغموض والهمهمات، وإنما للعرافين المسلحين بالإحصائيات والتصورات والسيناريوهات.