ملايين المسلمين احتفلوا، أمس، بوقفة عرفات، وملايين المصريين لم يدركوا أن أمس أيضا كان أحد أهم الأعياد فى تاريخ البشرية، فقد كان أمس رأس السنة المصرية القديمة وبالتقويم المصرى فإننا اليوم فى العام 6258 فالتقويم المصرى سبق التقويم الميلادى بـ4242 سنة، وفى الحقيقة فإننى لا أدرى أى هدر نعيشه الآن ونحن نترك أكثر من أربعة آلاف عام من السبق العالمى تائها فى كتب التاريخ مهجورا فى كتب العلم، غريبا عن الأذهان والعقول والأفهام والألسنة؟
وقف المسلمون أمس على جبل عرفات يرفعون أكف الضراعة إلى الله جل وعلا يبتغون مرضاة الواحد القهار، واليوم يحتفل الجميع بالعيد الكبير، يذبح من يذبح، ويأكل من يأكل، ويخرج من يخرج، البهجة حاضرة برغم الأسى، والعيد يكنس أحزان العام بألوان من الفرح، وفى ذات الوقت كان المصرى القديم يفعل ذات الأفعال، يخرج إلى الحدائق، يمرح بجوار النيل، يحتفل بخروج الكون من فصل الموات «الصيف» ويبتهج بدخول فصل الحياة «الشتاء» سبعة أيام يحتفل فيها بالزرع والمياه، إجازة من الشقاء، استراحة محارب يتلقف أنفاسه بعد أن قطعتها حرارة الجو وقسوة الفيضان، لتبدأ دورة الحياة من جديد، ويبدأ الزرع والحصاد والخير.
منذ قديم الأزل يحتفل المصريون بهذا اليوم احتفالا مهيبا، فقد اشتاقوا إلى «توت» أول شهور السنة المصرية الذى سمى باسم الإله «توت» أو «تحوت» إله العلم والفكر، وصاحب أول نظرية صوفية لتبجيل الخالق الواحد القهار، ذلك المعبود الأسمى الذى لا يختلف فى تصوره عن «الله» فى الديانات السماوية المقدسة، فهو الواحد فى كل، والكل فى واحد، الذى ليس كمثله شىء، المنزه عن كل تجسيد، والباقى بلا نهاية، والبادئ بلا بداية.
اليوم أول أيام «توت»، فى الحقيقة فإننى لا أشعر بغصة تقارب غصة إغفال الحضارة الفرعونية بجلالها وعظمتها، فقد كانت وصايا «توت» هى أول كتاب حقيقى يصف الخلق ويبحث فى أصوله، ويضع تصوراته عن الله والخير والشر، كتاب صوفى حقيقى نهل منه أكبر فنانى العالم، حتى خشى الأوروبيون أن تصبح «التوتية» ديانة جديدة فطعنوا فى تلك الوصايا زاعمين بتحريفها أو عدم أصالتها، لكنى مع هذا لا أرى مانعا من أن نعيد اكتشاف هذه الوصايا، وأن نعيد الاحتفال برأس السنة الفرعونية لأنها ببساطة تعنى الاحتفال «بالحياة» فى مقابل تلك الثقافة الصحراوية المشوهة التى تحتفل بالموت.
كل عام ومصر بخير