لم يكن تاريخ الدولة الإسلامية، فى مجمله دولة ظلم أو دولة دم، دولة استبداد، فهناك سنوات فى عمر هذه الدولة، كان العدل شعاراً حقيقياً لهذه الدولة، فمن منا يستطيع أن ينسى الخلافة الرشيدة وخلفاءها أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، جميعهم حكموا بالعد والعدل هو أساس الحكم، ولو استمر من تولى حكم الأمة على منهج العدل لما صار حالنا إلى الأسوأ، فى سير العظماء يعجبنى كثيراً سيرة الخليفة العادل عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، ولقد أقام دولته على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.. بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال».
وأما مبدأ المساواة الذى اعتمده الفاروق فى دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التى أقرها الإسلام قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «الحجرات: 13».
إن الناس جميعًا فى نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم فى نظر الشرع سواء، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد.
لم يقتصر مبدأ المساواة فى التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، وم
نها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، وهو ما سجلته كتب التاريخ ونقله الرواة، فعن ابن عباس، أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجًّا، فصنع له صفوان بن أمية طعامًا، فجاءوا بجفنة يحملها أربعة، فوضعت بين يدى القوم يأكلون وقام الخدام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبدالله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضبًا شديدًا، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل. ثم قال للخادم: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين.
ومن صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبى وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدّرّة وقال: إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله فى الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك. فإذا عرفنا أن سعداً كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم للشورى؛ لأن رسول الله مات وهو راض عنهم، وأنه كان يقال له: فارس الإسلام، عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة.
وكما رأينا أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد فى الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص، أقام الحد على ابن الخليفة فى البيت، فلما بلغ الخبر عمر كتب إلى عمرو بن العاص: من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى العاص بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك علىّ، وخلاف عهدى. أما إنى قد خالفت فيك أصحاب بدر عمن هو خير منك، واخترتك لجدالك عنى وإنفاذ مهدى، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أرانى إلا عازلك فمسىء عزلك، تضرب عبدالرحمن فى بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفنى؟ إنما عبدالرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندى فى حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابى هذا، فابعث به فى عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع. وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهرًا «روى ذلك ابن سعد، وأشار إليه ابن الزبير، وأخرجه عبدالرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً».
فهكذا نرى المساواة أمام الشريعة فى أسمى درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالى من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك أشد الألم، وعاقب واليه -وهو فاتح مصر- أشد العقاب وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحق من العقاب، حرصًا على حدود الله، ورغبة فى تأديب ابنه وتقويمه.