يصٌعب علينا ويصعب جدًا أن تتحول ثورة يناير إلى مجرد ذكرى وحيدة لحلم جميل..
يصعب علينا أن نجلس بعد خمسة أعوام من الفر والكر واليأس الذى صار واقعًا بعدما ظنناه خيانة والأمل الذى صار رفاهية وكنا نظنه مستحقًا، يصعب علينا بعد كل هذا أن تتحول الذكرى لكابوس يقرع فيه زوار الفجر بيوتنا، يلملمون ما تبقى من الثورة فينا بعدما تحولت من فخر لتهمة.
فى ذكرى يناير، تستعيد الشرطة عنفوانها الوهمى تتسلح بقوة ورباط خيل، تبقر بطون شوارعنا بحثًا عمن تشم فيه رائحة يناير، رائحة الثورة مزعجة تزكم أنوف القتلة ،يشتعل النباح ، رائحة الثورة قوية تٌذكر السلطة ومن فيها أن لكل ظالم نهاية حتى وإن دارت الدوائر وانتصرت الثورة المضادة لبعض الوقت.
يكفى يناير فخرًا أن اسمها المهزوم فى إعلام أعدائها ترتعش له أبدانهم خوفًا، يبحثون عنا فى دفاترهم، يخفون رسومنا وكلامنا من على الحوائط ببياض أحمق يكفن الرسم ولا يقتل الفكرة.
الثورة كبيرة كفيضان يكتسح حماقات الأنظمة وفجوات واسعة بين شباب أحياء وحكام موتى، الثورة لا تموت لأنها ليست الشهداء وحدهم ولا المعتقلين كلهم ولا ذكرياتنا التى تخيفهم، بل هى كل ذلك، هى جيل لا يرضى بغير الثورة بديلًا ويدرك جيدًا أن وضعها فى ديباجة الدستور على غير اقتناع لا يسمن ولا يغنى من حلم، لا يفتح ولا يبنى بلادًا متهدمة.
بعد خمس سنوات من ثورة يناير قرة العين ونفضة الروح، ندور فى الحلقات المفرغة نفسها، نبحث عن شوارع خلفية لنمرر منها أنفاسنا وخيالاتنا للحب والعلم والحلم والحق والحرية.
بعد خمس سنوات من يناير، لا نرضى بيناير التى صارت ذكرى نمصمص شفاهنا حين تأتى ونبتسم "كانت أيام" ، كانت أحلامنا كبيرة ولم نكن بلهاء حين صدقنا أن السماء التى استقبلت شهدائنا بفرح ستقايض الدم بالحرية، كنا نعرف أن الثمن كبير لأن الطلب غالى والأعداء كثر، ذئاب عديدة نهشت فى لحمنا، تجرعت دمائنا كئوسًا فى سهرات الانقضاض على وطن تمتلئ بخيره الكروش.
بعد خمس سنوات من يناير، تشققت صفوفنا، خرج منها من خرج يبحث عن مصالحه وبقي فيها من بقي، وجن فيها من جن، وعاد فيها من عاد للسجن ليس كمثله شئ ، أسوار وقضبان وزنازين ضيقة لا تتسع لهتافات صامدة، وظهر من بيننا من يزايد على الثورة فيقول نحن لا نعبد يناير، الثورة ليست صنمًا لنعبده ، يهلل له من يهلل وينال تصفيقًا ينتظره.
أما نحن وأمثالنا ، نعبد يناير بكل فخر وآلم، نعبد يناير لأنها لم تطلب إلا كرامة وحرية لم ننل منهما شيئًا ولا أفهم ما الذى يضير المتنصلون من عبادة الكرامة والحرية؟ أليست أفضل من عبادة المال وأنصاف الرجال ؟
نحن نعبد يناير ونتآلم كل صباح لأن شمسًا لامعة لن تشرق على زنازين اخوتنا فى السجون فى الوقت الذى يستمتع بها مبارك وعصابته ورجاله يداوون أمراضهم بأقواتنا.
نعبد يناير بكل فخر وحزن، لأن ثورة عظيمة قامت لأجل شعب لم يعتد الخير أبدًا ،لم يصدق أن كل هذا لأجله ، انقلب على نفسه ، ينظر فى المرآة يسب وجهه كل صباح ، يلعن يناير وشباب يناير وأيام يناير، ونظل نحن بكل هذا الفخر وكل هذا الآلم لا نرضى بغير يناير بديلًا.