لا يكون من قبيل المبالغة أبدا القول إنه لم تتوافر لبلدين على مستوى العالم فرص للتعاون والتكامل وربما الاندماج مثلما توافرت لمصر والسودان، فكل المعطيات النظرية والواقعية تقود إلى هذه النتيجة، لكن ما يثير الاندهاش – وهو اندهاش مزمن فى الحقيقة – أنه على الرغم من الترابط الواضح والضارب بجذوره فى أعماق التاريخ والمتغلغل فى ثنايا الجغرافيا، بين شعبى شمال وادى وجنوبه، فإن حكومات البلدين على مر العقود الماضية أضاعت تلك الفرص واحدة تلو الأخرى، أو لم تسع إلى تدعيمها والاستفادة منها، وحتى فى أوج رفع القاهرة لواء الوحدة والاندماج مع البلدان العربية وخوضها تجارب الوحدة مرة مع سوريا وأخرى مع ليبيا فى ستينيات القرن الماضى، أو خوضها تجارب وحدوية كمجلس التعاون العربى وكانت أطرافه مصر والعراق والأردن واليمن، لم تكن السودان طرفا فى تلك التجارب، على الرغم من أنها الأقرب لمصر بكل موازين القرب بين الشعوب والدول، وكان لافتا أن خضعت علاقات بين البلدين المتلاصقين جغرافيا والمتشاركين فى التاريخ والجذور الاجتماعية فضلا عن الشراكة المصيرية فى مياه النيل، لمزاج الحكومات فى البلدين.
ظلت العلاقات بين البلدين لا تراوح مكانها فى اتجاه الوحدة والاندماج التى لطالما كان تحقيقها حلا لأزمات ومشكلات عديدة وعصيبة مرت بالبلدين، وتعاملت معها حكومات وحكام البلدين تارة برفع شعارات دون أى خطوة على أرض الواقع، وأخرى بإجراءات كانت طوال الوقت غير مكتملة النمو، مثلما جرى فى محاولة تحقيق التكامل فى عهدى الرئيسين الراحلين أنور السادات وجعفر النميرى، وجاءت الفترة الأخيرة لتجعل من الوحدة فرض عين، فى ظل حصار يواجهه السودان منذ سنوات، وأزمات اقتصادية خانقة تعيشها مصر منذ ثورة يناير 2011، وجزء واضح من الخروج منها يتمثل فى التوجه جنوبا، وتفاهم واضح وتقارب فى وجهات النظر بين قيادتى البلدين، فضلا عن منعطف مصيرى وتاريخى يواجه البلدين ويتمثل فى إقدام أثيوبيا على إنشاء سد النهضة، وما يثيره ذلك من مخاوف الخصم من حصص البلدين فى مياه النهر، كل هذه المعطيات وغيرها تعجل وتفرض على شطرى وادى النيل الإسراع بخطوات الوحدة والتكامل والاندماج، وهو ما تبدو بعض من بشائر له بانعقاد اللجنة العليا المشتركة بين البلدين لأول مرة فى تاريخها على مستوى رئاسى، فضلا عن تنفيذ حلم الإفراج عن مشروعات المعابر الحدودية بين البلدين وآخرها معبر أرقين قبل أيام ومن قبله منفذ قسطل، فالمنفذان خطوة عملية على طريق تحقيق بعض من مصالح الشعبين، عبر زيادة التبادل التجارى بين البلدين وإطلاق مشروعات مشتركة على جانبى المعابر، بينها وبحسب تصريحات للسفير السودانى بالقاهرة الدكتور عبد المحمود عبد الحليم إقامة منطقة تجارة حرة ومجمع صناعى ضخم، فضلا عن مشروعات خدمية يستفيد منها أبناء الجنوب المصرى وأبناء الشمال السودانى معا.
انعقاد اللجنة العليا المشتركة فى القاهرة هذه الأيام سبقه حديث أيضا عن إطلاق وثيقة للتعاون الاستراتيجى بين مصر والسودان تستهدف فتح آفاق أكبر وأعمق وأكثر تأثيراً لمصلحة شعبى البلدين، وتعزيز الشراكة فى كل المجالات، وهى خطوة جديدة من شأنها أن تضع البلدين على الطريق الصحيح نحو تعاون حقيقى ومثمر، وبعيدا عن أية شعارات، سمع منها الشعبان كثيرا على مدار العقود الماضية، دون نتائج حقيقية على الأرض.
اللافت فى ملف العلاقات بين شطرى وادى النيل أن ما يدور فى الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعى طوال الوقت لا أساس له فى الغالب، فى تصريحات مسئولى البلدين وأحاديثهم العامة والخاصة، فالأزمة التى أثيرت بشأن قرار سودانى بوقف استيراد الفاكهة وبعض المنتجات المصرية بدا من أحاديث مسئولين سودانيين أنه تم إبلاغ القاهرة أنه إجراء فنى احترازى ومؤقت، من دون أية أبعاد سياسية، وهو ما بدا أيضا أن القاهرة تفهمته.
كما أن الحديث "إعلاميا" عن تذمر مصرى من انحياز سودانى فى أزمة سد النهضة لأثيوبيا، لا تجد أساسا له فى تصريحات وأحاديث مسئولين مصريين معنيين بالأزمة، وهم على العكس من ذلك يتحدثون عن جهود بذلتها وتبذلها الخرطوم لتقريب وجهات النظر والوصول إلى حل للأزمة لا يضيع حقوق الشعبين المصرى والسودانى فى مياه النهر.. لتبقى التساؤلات عمن يسعى إلى افتعال الأزمات بين البلدين، وعمن سيتمكن من تجاوز كل ذلك ووقف مسلسل الفرص الضائعة لتحقيق الوحدة والاندماج الحقيقى بين شعبى النيل؟