ذكرنا فى مقالة سابقة أن محل الخلاف بين الفقهاء ينحصر فى المسائل الفرعية، ولا خلاف بينهم فى أحكام المسائل الأصلية التى حُسمت بالنصوص قطعية الدلالة فى الكتاب والسنة، والمسائل الفرعية لا يقصد بها تلك المسائل التى لم يرد فيها نص من كتاب الله ولا سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فقد تكون المسألة محل خلاف بين الفقهاء مع ورود آية أو أكثر تتعلق بها فى كتاب الله، والفرق بين المسائل الفرعية حينئذ وبين المسائل الأصلية أن المسائل الأصلية نصوصها قطعية فى دلالتها ولا تحتمل التأويل، كقول الله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»، فلا تحتمل الآية إلا فرضية الصلاة وفرضية الزكاة، لورودها بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، حيث لا قرينة تصرف إلى معنى آخر من معانى الأمر كالاستحباب مثلا، وهذا الحسم الوارد فى الآية غير موجود فى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»، فمع أن الآية واردة بنفس صيغة الأمر التى دلت على الوجوب حتما فى الصلاة والزكاة، إلا أنها لم تدل على وجوب كتابة الدين، حيث وردت قرينة لفظية صرفت الأمر عن الوجوب إلى الإرشاد والندب، وهى قوله تعالى بعد ذلك: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ»، فقد دلت هذه القرينة على جواز ترك التوثيق فى حال الثقة فى ذمة المدين.
وعلى ذلك، فالخلاف بين الفقهاء قد يقع فى مسائل ورد فيها آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، وذلك إذا وردت هذه الآيات أو الأحاديث بصيغة غير قطعية الدلالة تحتمل أكثر من معنى، ومن ذلك قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»، فالآية حسمت أحكام غسل الوجه واليدين، وأن طهارة الرأس فى الوضوء مسح لا غسل، ولكنها دلت على مقدار الممسوح دلالة ظنية، حيث يمكن اعتبار الباء زائدة كما قال المالكية، فيكون الحكم مسح الرأس كاملا، ويمكن اعتبارها أصلية، فيكون المراد بعض الرأس كما قال الجمهور، ودلت الآية أيضا على دخول المَرافق فى غسل اليدين دلالة ظنية، حيث إن «إلى» تستخدم أحيانا بمعنى «مع»، فيدخل ما بعدها فى حكم ما قبلها كما ذهب الجمهور، وتكون «إلى» أحيانا لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فى حكم ما قبلها، كما فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ»، ولذا قال بعض الحنفية إن من ترك غسل المرافق وضوؤه صحيح قياسا على آية الصوم هذه، حيث إننا نفطر عند دخول الليل ولا نصوم شيئا منه، كما دلت الآية على غسل القدمين دلالة ظنية، وذلك بعطف الأرجل على الوجه كما ذهب الجمهور، كما أنها احتملت المسح أيضا، وذلك بقراءة «أرجلكم» بخفض اللام عطفا على «رؤوسكم»، وهو قول بعض الفقهاء، كما قال بعضهم إن طهارة القدمين تكون غسلا ومسحا جمعا بين القراءتين، ويبقى ما ذهب إليه الجمهور فى جميع أحكام الآية هو الأولى بالاتباع.
ويرجع اختلاف الفقهاء حول أحكام المسائل الفرعية إلى أسباب علمية معروفة عند أهل العلم وليس حبا للخلاف ولا سعيا إليه كما يردد بعض الأدعياء، ومن هذه الأسباب ورود الدليل المشتمل على حكم المسألة ظنى الدلالة كآية الوضوء السابق تناولها، أو كون اللفظ الدال على الحكم له أكثر من استخدام لغوى كلفظ «القرء» الوارد فى عِدّة المطلقة فى قول الله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ»، حيث إن لفظ «القرء» يستخدم بمعنى الطهر، ويستخدم بمعنى الحيض أيضا، ولذلك اختلف الفقهاء فقال بعضهم إن عِدّة المطلقة ثلاثة أطهار، وقال آخرون ثلاث حيضات، وقد يكون سبب الخلاف اختلاف التفسير الوارد فى المسألة، ومن ذلك اختلاف العلماء فى عذاب الميت ببكاء الأحياء عليه، وذلك لاختلافهم حول المراد من قول النبى، صلى الله عليه وسلم، حين مر بقبر يهودية يبكيها أهلها: «إنهم يبكون وإنها لتعذب»، حيث فهم بعض الصحابة أنها تعذَّب بسبب البكاء عليها، بينما فهم بعضهم الآخر أنها تعذَّب لكونها ماتت على غير الإسلام، ولا علاقة لبكاء أهلها حزنا على فراقها بعذابها، وقد يكون خلاف الفقهاء بسبب عدم الوقوف على الدليل، ولاسيما قبل أن تدوَّن السنة النبوية، ولذا اختلف أبوبكر وعمر، رضى الله عنهما، فى قتال مانعى الزكاة قبل أن يتفقا عليه بعد ذلك، مع أن المسألة فيها نص من السنة، وهو قوله، صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة»، فلو كان عمر يعلم هذا النص لما احتج على الصديق بقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، ولو كان الصديق يعلمه لما رد على عمر باستخدام القياس على الصلاة، حيث قال: «والله لأقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال»، وقد يرجع الخلاف، ولا سيما بين المتأخرين، إلى عدم وجود نص من القرآن أو السنة ولا اجتهاد للصحابة فى حكم المسألة الناشئة، فيختلفون فى إلحاقها بطريق القياس أو غيره من طرق الاجتهاد بحكم أصل آخر لاختلافهم فى تشابه الفرع للأصل، ومن ذلك اختلافهم فى حكم التدخين بين التحريم لمضرته، والإباحة لزعم نفعه، والكراهة توسطا بين الرأيين، وإن كان الأولى بعد تأكد مضرة التدخين القول بتحريمه، وهناك أسباب أخرى لاختلاف الفقهاء تضيق هذه الزاوية عن ذكرها، ولعل ما ذكرناه يؤكد أن خلاف الفقهاء له أسبابه العلمية، وهو خلاف محمود، ولو أراد الشارع حسم جميع المسائل لحسمها، ولكن جعل نصوص بعض المسائل ظنية الدلالة ليختلف الفقهاء فى أحكامها، فكان اختلافهم رحمة حقيقية، لما فيه من التيسير والتخفيف على الناس.