على صهوة جواد الأوبرا المصرية عشت لحظات من المجد والبطولة العربية الأصيلة مع أبو الفوارس "عنترة بن شداد العبسى" وهو يصول ويجول فى عتمة أيامنا الحالية، بذكر مناقبه على حناجر الشعراء وحكايا الرواة، الذين جاءوا من مختلف البلدان العربية فى إطار "الملتقى الثقافى العربى الأول - أبو الفوارس عنترة" ، والذى نظمته دار الأوبرا المصرية بتنسيق خاص بين الدكتور عصمت يحيى ، رئيس أكاديمية الفنون السابق، وقبيلة "آل الرشيد" السعودية برئاسة الشيخ محمد الحاضر، الذى ينتمى لـ "قبيلة عبس" بحكم الجذور ، وفى ظاهرة هى الأولى من نوعها تخلى الحضور من عواقل وأفراد القبائل عن قواعد الإتيكيت التى تضعها الأوبرا لضيوفها، حيث خرجوا من المسرح
المكشوف ، وبدأوا بتكوين حلقات لرقص السامر العربى ، وتوسط الحلقة راقصون من القبيلة ظلوا يتمايلون فى خيلاء على النغمات بالعصى والسيوف إلى ساعة متأخرة من الليل .
كان "عنترة" حاضرا بروحه وسط هذا الجو الكرنفالى الجميل ليخبر المحتفون به عن شخصيته البارزة فى العصر الجاهلى وفروسية هذا الشاعر، وبطولته التى قلّ نظيرها فى هذا الزمان، حيث أبلى بها بلاء حسناً سواء على الصعيد الشخصى أو على الصعيد القبلى حين ارتبطت سيرته بصراعه من أجل الحرية.. وصراعه ضد عقدة اللون والنسب، فهو ابن الجارية الحبشية "ذبيبة" التى سباها شداد فى إحدى غزواته..وصراعه من أجل الحفاظ على قبيلة عبس .. ثم صراعه ضد اليهود والأحباش والهنود والفرس والروم أعداء الأمة الذين هددوا سلامتها وأمنها.
وكان لافتا للنظر فى قلب هذا المهرجان الذى استطاع أن يوحد كافة القبائل التى تنتمى لـ "عبس" من مختلف الأمصار والأعمار والطبقات الاجتماعية - الوزير منهم بجانب السفير، وبينهم البسطاء على خشبة وصالة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية - فى حشد غير مسبوق، بعدما انخرطوا فى حالة من الزهو بـ "أبو الفوارس" الذى مازال حتى اليوم يحمل رمزية خاصة فى الحب والحرب، وروح الفداء من أجل الوطن ممثلا فى الدفاع عن قبيلته عبس ، وإذا كان عنترة قد أمضى فترة من حياته عبداً فإن العبودية لا تستطيع أن تنفى عنه استعداده الأصيل لحمل راية الحرية فيستغل الظروف الحرجة التى مرت بالقبيلة فيشارك فى حروبها ، ويفرض عليها حريته، وحتى الفترة التى قتل فيها عنترة وقد بينت فى مولده أنه اشترك فى معارك "داحس والغبراء" وعمره ثلاثون عاماً، واستمرت الحروب أربعين سنة مما يجعل سن عنترة عند انتهائها سبعين سنة، وبحسب كتاب سيرته فإنه قد عاش بعد ذلك فترة تصل إلى عشر سنوات، أى أنه عاش حياته قرابة ثمانين عاما، ظل طوالها قابضا على جمر الحرية، حاملا سيفه ومدافعا عن شرف وعرض وطنه الذى ربما تجسد فى حبيبته "عبلة" رغم أنه لم ينلها زوجة إلا بعض الوقت، وحالت الظروف أن تكمل معه باقى المشوار ، بعدما جلب مهرها بشق الأنفس ( ألف من النوق الحمر ) من عند الملك النعمان .
والحقيقة التى بدت لى واضحة فى قلب فعاليات تلك الليلة أن كثيرا من الدروس والعبر فى سيرة "عنترة العبسي" ينبغى ان نستدعيها الآن على أكثر من صعيد، ففى ظل حالة التمزق العربى الحالية نحتاج إلى بطولة من نوعية "أبو الفوارس" الذى أفنى عمره المديد، حاملا سيفه يجوب الصحارى والوديان، ولم يقف خلاله مرة واحدة على منصات التكريم مقلدا بالنياشين، وهو الذى صنع أسطورة حقيقية فى الفروسية، وشعاره الذى لازمه فى ساحات الوغى وكان يردده دائما يقول :
خلقت من الحديد أشد قلبا وقد بلى الحديد وما بليت
وفى الحرب العوان ولدت طفلاً ومن لبن المعامع قد سقيت
وإنى قد شربت دم الأعادى بإقحاف الرؤؤس وما رويت
فما للرمح من جسمى نصيب ولا للسيف فى أعضائى قوت
نعم ما أحوجنا الآن إلى نموذج البطولة العربية التى تجسدت فى "عنترة" الذى أخذ نفسه بفنون القتال وتمرس عليها وقد أورثه هذا التمرس خبرة استخدمها فى حروبه مع أعدائه وأكسبته شهرة عظيمة، وجعلت منه فارساً مرموقاً تضرب بشجاعته الأمثال ، والأخبار عن فروسيته وشجاعته كثيرة ولكن تلتقى جميعها فى نقطة واحدة وهى : إن هذه الفروسية لم تكن عبثاً عند عنترة ، بل إن مظاهر البطولة التى يعطيها عديدة ومتنوعة، تتقلب حسب تقلب المعارك وتتغير بتغير المواقف ، ففى الوقت الذى يبرز فيه الأبطال الشجعان ويجبن الناس عن ملاقاتهم لتحقق الموت، ويبقى المبارز فى الساحة يطلب له قرناً فلا يجد ، يبرز له عنترة متحدياً لهذا البطل ، وهو هنا لا يعطى فكرة عامة عن البطولة بل هى فكرة خاصة وهى الإغراق فى البطولة ، وهو أمر اختص به دون الآخرين عندما جبن الناس ، وظل هو الشجاع .
وإذا كانت المعارك عند عنترة تنتهى بموت الخصم فإن عنترة لم يعدم يوماً أن فكر فى نهايته، ولم يعدم غيره أن فكر فى نهايته، فقد وصل إلى حل واضح "لابد أن أسقى بكأس المنهل "، فهو لا ريب مقتول لأن المنطق الواقع والبطولة والفروسية يقتضى ذلك ، فالبطل ابن المعارك وصديق الأهوال، و من كانت عرضاً للمخاطر لا بد أن تناله فى يوم من الأيام ، وليس ذلك بعيب أو نقيصة أن يقول "إنى امرؤ سأموت إن لم أقتل "
وقد استغل عنترة هذه الفكرة ليعرض فيها صورة أخرى من صور البطولة عنده، وهى عدم الخوف من الموت وتصميمه على دخول المعارك وتمثيله بالموت تأكيداً لشجاعته، تماما كما يفعل الرئيس السيسى الآن فى مواجهة الإرهاب والتحديات والمؤامرت التى لايقوى عليها سوى أمثال عنترة ، لذا نجده ذلك الفارس البطل الذى يعنى بالسلاح وآلة الحرب ، فى وقت لا يفكر فيها ولا يحاول اقتناءها الجبان الضعيف، وماذا يصنع بها ؟.
وإذا ً كانت الخيل والرماح والسيوف والدروع هى عدة البطولة التى تعتبر عنصرا ً من عناصر البطولة عند "عنترة العبسي" ، فإنها ذات العناصر التى يعتمدها السيسى فى كل مساعية وهو يحكم أمة "خير أجناد الأرض" التى يحاول البعض منا النيل منها وإضعافها - للأسف - لحساب أمريكا والغرب مع إخوان الشيطان، الذين يتفنون يوميا فى ابتكار خطط إعلامية من شأنها الوقيعة بين الجيش والشعب وإنهاك إقتصاد هذا البلد فى مزاد فوضى الحرية الجديدة .