النسيان نعمة، ولكنه فى مصر لعنة. فما تكاد المشكلة تحدث أو المصيبة تقع حتى يضج الإعلام بالنقد والسب والتوبيخ، ويخرج المسؤولون كالنمل للرد والمؤاساة والترنيخ، ثم فجأة ينتهى الموضوع ويسقط مع التاريخ، ويظل الناس عائشين فى البطيخ. فهى إما «حمرا أو قرعة» لا يهم، فالنسيان يصنع الشربات من الفسيخ !!. نفعل ذلك فى كل كوارثنا بلا أى استثناء، ولو من قبيل التغيير. وكنت بالأمس، أتحدث مع أحد أصدقائى من معدى البرامج التليفزيونية عن القضايا التى سوف يناقشها فى الحلقة الجديدة من برنامجه.. فقال لى إن الساحة لا يوجد بها موضوعات ساخنة، فاقترحت عليه أن يناقش كارثة الهجرة غير الشرعية، فضحك ساخرا، وهو يقول«الموضوع دا اتهرا وخلص خلاص».
وللأسف لقد صدق رغم أن الهرى لم يفلح فى إيقاف هذه الكارثة ولا هى خلصت خلاص. بل مازال الملايين من شبابنا يحلمون بالهجرة غير الشرعية، ومازال المئات يركبون البحر كل يوم فاردين أكفانهم وهم يعلمون أن الموت أقرب لهم من أى شاطئ. لم يتغير أى شىء ولم نعط لأى شىء الوقت الكافى أو الاهتمام اللازم لكى يتغير. اكتفينا بالنحيب واللطم والولولة وبالتصريحات واللجان والوعود المؤجلة. وفى انتظار الكارثة القادمة، لنعيد نفس الفيلم، وكأنها هوامش على تاريخ النكسة. والله أعلم كم من أبنائنا سيغرقون فى المركب القادمة. ولكن إلى أن يحدث ذلك، فالنسيان نعمة. فلم نجد حكومة تتبنى هذه القضية وتجعلها شغلها الشاغل ولا حتى عرفنا أن هناك وزارة قررت أن تعالج هذه الظاهرة من جذورها. ولا شاهدنا حزبا يوجه كل مجهوداته لمواجهة هذه الكارثة ويلتحم مع هؤلاء الشباب البائس، ويسمعهم ويقنعهم بأن الوطن مهما كان بخيلا فهو أكرم بكثير من الموت غريقا. حتى الجمعيات الأهلية والحقوقية اكتفت بالصراخ والعويل وشتم الدولة والمسؤولين ثم أخفت رأسها فى الطين. فما الفائدة من كل ما حدث وما العبرة وما التغيير المنتظر طالما أن المجتمع بكل جبهاته قرر أن إكرام الميت دفنه ودفن الموضوع كله معه.
حتى مجلس النواب الموقر، الذى يحتفل الآن ببلوغه المائة وخمسين ربيعا، لم يفعل أى مجهود حقيقى ليمنع موت هذه الزهور فى ملوحة الأمواج، وسافر الأعضاء لشرم الشيخ ليستمتعوا بجمال البحر ويحتفلوا بإنجازاتهم التى لا يعرفها أحد. كل مصائبنا نعالجها بهذا المخدر بلا استثناء، فالنسيان أسهل وسيلة لاستمرار الحياة فعلا، ولكن بلا ضمير أو إحساس بالمسؤولية. لذلك قررنا أن ننسى كل شىء إلى أن يذكرنا بكوارثه القدر!!. فننسى أن فى القاهرة أعلى معدلات التلوث فى العالم حتى تكتب إحدى الصحف الأجنبية أن مصر أصبحت مسممة، فمياه النيل يلقى فيها كل عام أكثر من 15 ألف طن من الملوثات الكيميائية والبشرية والحيوانية ومعظم الخضراوات والفاكهة يتم ريها بمياه الصرف، والهواء ملوث بعشرات المصادر المسمومة. كلنا نعرف هذا ولم يتحرك أحد.
كلنا يدرك مصائب الطرق والمرور فى مصر، ويموت الآلاف كل عام ولم يهتز أحد. كلنا نعيش مأساة التعليم وسوء المناهج وطرق التدريس والأجيال تتخرج بلا أى قدرات أو علم ولم ينقذهم أحد. كلنا نشاهد البلطجة فى الشوارع حتى أن التحرش بالنساء أصبح فعلا شائعا بعد أن كان فاضحا ولم يقف للبلطجة أحد. الفساد يعم البلاد ويسرق كل يوم مليارات حتى أصبح أسلوب حياة ولم يحاربه أحد. لذلك تظل كل الكوارث بلا حلول فكل ملفاتنا السوداء متروكة للنسيان ورحمة القدر ولم ينشغل بها أحد. ثم نصرخ من الانحدار والسقوط ونتساءل أين هذه الدولة الذى كانت منارة العالم فيما مضى وأين الحضارة والقوة والرخاء ونتجاهل أننا نحن جميعا السبب!!..