«دُون بَابلو.. إننى عاشق»، هذه هى الجملة التى قالها «ماريو خمينث» أمام الشاعر الكبير بابلو نيرودا، فى وقار شديد بعدما جفف العرق عن جبهته بيده.
لا شىء فى هذا العالم يشبه كتابا جميلا ممتلئا بالروح يثير فى نفسك الحب والكراهية والحنين والحلم ويعزلك عن الدنيا قبل أن يلقيك فى معتركها مرة أخرى فتجلس مفكرا وتتساءل كيف منح الله الكاتب هذا القدر من البصيرة كى يرى كل شىء ثم يحكيه لنا؟!.
أعترف نعم تأخرت كثيرا جدا فى قراءة رواية «ساعى بريد نيرودا» للمبدع الكبير أنطونيو سكارميتا، لكننى فى النهاية قرأتها، وعرفت بعدها أن الكتابة محبة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، وأن الترجمة الجيدة موهبة عظيمة امتلكها الكبير صالح علمانى.
مع الرواية سوف نقف عاجزين أمام ما كتبه الرجل، فالمشاهد منتقاة تكشف الكثير عن شخصيات الرواية، واللغة مفعمة بالجمال الذى يسميه بابلو نيرودا «المجاز»، والحوار بجمله القصيرة التى تليق بمسرح عظيم يعرف وقع الكلمة ومفادها، ويمكن بكل سهولة أن نتعامل مع النص على أساس أنه حكاية عن الفقراء والصيادين وعن تشيلى التى تغلى بفعل السياسة، وعن ساعى البريد ماريو خمينث الذى كان فى وقت ما صيادا كسولا ثم أصبح ساعى بريد يحمل الرسائل لرجل واحد هو شاعر تشيلى العظيم بابلو نيرودا، ثم تطورت العلاقة بينهما ووصلت لدرجة حلم «ماريو» بكتابة «قصيدة» كى يصبح شبيها بـ«نيرودا» صديقه وعراب طفله الوحيد الذى أطلق عليه «بابلو نيفتالى».
يمكن لنا أن نلمح فيما كتبه «سكارميتا» قصيدة حب طويلة، موضوعها الإنسان بكل مما يحويه من أفكار متناقضة، فلدينا الشاعر الأشهر الذى تعتبره البلدة الصغيرة «إيسلا نيجرا» أيقونة مجدها، ولدينا قصة الحب الكبيرة وبطلتها «بياتريث» حبيبة «ماريو» التى قال لها «إن ابتسامتك تمتد مثل فراشة على وجهك» فاشتعل الغرام فى قلبها.
وفى الرواية أيضا حكاية تشيلى الحزينة، حكاية التآمر على سلفادور الليندى وعلى كل الحالمين لهذا البلد، نراقب بحذر كيف تتسع دائرة الانتقام لتأخذ فى طريقها الشاعر الأشهر فى البلاد بابلو نيرودا، المحاصر فى بيته والمريض الذى يحتضر من الحمى وأشياء أخرى والسائل عن البحر «ألن أجد البحر هناك فى الأسفل عندما أفتح النافذة؟ هل أخذوه أيضا، هل حشروا بحرى فى قفص أيضا؟.
يظهر الوجه القبيح للأشياء وتمتد يد قاسية تهدم أحلام «ماريو خمينث» البسيطة التى لم تكن تتجاوز فوز قصيدته فى مسابقة شعرية تنظمها إحدى المجللات ورغبة عارمة الذهاب فى رحلة إلى باريس، لكنه ذلك لم يحدث أبدا.