كأن التاريخ العربى والإسلامى يعيد نفسه بأقصى درجات الغدر والخيانة والتأمر، فبعد ما يقرب من 800 عام على غزو المغول بقيادة "هولاكو" للعراق، الذى استطاع احتلال بغداد فى عام 1257م ، ثم واصل زحفه نحو دمشق مرورا بحلب وماردين وغيرها من قلاع وحصون دمرها عن بكرة أبيها، حتى لقى هزيمة ساحقة على يد المماليك بقيادة "قطز والظاهر بيبرس" فى معركة "عين جالوت" ، وطبعاً هولاكو كان "بوذيا" ولكن فى حربه الكبرى من أجل تحقيق حلمه فى تدمير دولة الخلافة العباسية، اشترك معه مجموعة من المسلمين الذين يريدون تمزيق الوحدة الإسلامية، وتدمير بغداد ، إضافة إلى جيوش ومرتزقة من "جورجيا" وجيوش من "الأرمن والفرس" ، إضافة إلى جيوش من "الأتراك"، تماما كما تفعل قطر وتركيا بغطاء أمريكى لدعم عصابات "داعش" فى "الموصل وحلب ودمشق وطرابلس الغرب وسرت " وغيرهم من بؤر الإرهاب الأسود على الخارطة العربية .
وعلى درب من ساعدوا "هولاكو" تدعم كل من أمريكا وتركيا وقطر "داعش" كمبعوث تتارى جديد للمنطقة، على جناح ما يسمى بالفوضى الخلاقة، بينما الهدف المبطن هو السيطرة على النفط فى الموصل شرقا وموانئ سرت غربا، ومن أجل تلك الغاية ترتكب "داعش" أفظع الجرائم الوحشية تجاه المدنيين، تماما كما كان يفعل هولاكو فقد استعان مع جيشه بمجموعة من خبراء المتفجرات من الصين ليتمكن من سحق بغداد، ويقال إن هولاكو وجيوشه من المرتزقة، قد قتلوا أكثر من 200 ألف من سكان المدينة، وعلى رأسهم العلماء والشعراء والفقهاء - بحسب كتب التاريخ - حتى قيل إن هولاكو سكن عكس الرياح، بسبب رائحة الموت والدمار الذى خلفه فى بغداد، فضلا عن تدمير ونهب بيت الحكمة الذى كان يحوى كنوزا معرفية مهمة، ووثائق وكتب تاريخية نفيسة فى الطب والجغرافيا والأدب، إضافة إلى تدمير ونهب المساجد والقصور التاريخية والمستشفيات، وقنوات الرى التى ملئت بالطين أو دمرت وتدمير السدود ونواظم الإسقاء .
هذا الكلام بمناسبة إننى منذ أيام قليلة انتهيت من مشاهدتى الثالثة لمسلسل "هولاكو" والذى جسد شخصيته ببراعة الفنان السورى الكبير أيمن زيدان ، وبغض النظر عن المآخذ التاريخية فى السرد الدرامى ، إلا أنه كان فرصة لتذكر مشاهد وأحداث من سجل التاريخ الدموى لواحد من أكبر الغزاة للشرق العربى والإسلامى ، وذلك فى إطار الدور المهم الذى تلعبه الدراما التليفزيونية الآن، فقد بات لمفهوم الدراما دور محورى فى حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية المجتمعية ، حيث يعتبرها أغلب علماء علم الاجتماع المعرفى "ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني" .
المهم أننى خلصت بنهاية الحلقة الأخيرة من مسلسل "هولاكو" إلى أن أفعال هذا التتارى الطاغية، على قدر وحشيتها ودمويتها وجثثها المخضبة باللون الأحمر القاني، فأنها فى الوقت ذاته لاترقى إلى أدنى مستوى من مأساوية ما يفعله "أبو بكر البغدادي" وعصاباته الداعشية المدججة بأحداث الأسلحة الأمريكية الفتاكة، فقد كان هولاكو فى أحكامه بقطع الرؤوس أو على مستوى دهس الخليفة العباسى المستعصم وأبنائه بالخيول، ودفن خصومه أحياء يميل إلى تطبيق دستور وضعه جده التتارى "جنكيز خان" وأطلق عليه "الياسا" وهو يشتمل على جانب كبير من الأحكام التى تتعلق بالجزاء والعقاب من أجل نشر الأمن فى أرجاء الامبراطورية المغولية، وكانت الصرامة التى تميزت بها أحكام "الياسا" هى الكفيلة بإخضاع تلك القبائل الهمجية، وترويضها وإبعاد الفوضى، وبهذا الأسلوب استطاع توحيد المغول، ونظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والمحكومين ببعضهم البعض، كما نظم علاقات الأفراد .
لكن تبقى الدهشة والعجب مقرونتين بالذهول من فرط أفعال البغدادى وعصاباته الداعشية الهمجية حيث بدا أشد قسوة وأكثر إيلاما لبنى دينه من المسلمين ، الأمر الذى هيأ لخياله المريض أن يتخذ من القرآن بصفاء آياته وأحكامه التى نزلت الحق والرحمة والإنسانية دستورا يعينه فى القتل على كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبدم بارد ترتكب أبشع الجرائم الوحشية من قتل وتعذيب وسبي، واغتصاب بدعوى جهاد النكاح وغيرها من أغراض دنيئة على جناح فتاوى تخالف كل الأديان السماوية والأعراف الإنسانية فى استباحة قتل الأخ لأخيه ، والابن لأبيه وأمه، وبأفعال جنونية يغالى هؤلاء السفاحون فى أفعالهم الإجرامية على سبيل إثبات الولاء والانتماء لدولة الخلافة المزعومة .
ويبدو لافتا أيضا فى أفعال داعش على الأرض، ماتم تدميره من آثار يعود وجودها لآلاف السنين، وتختزن مسيرة الإنسان فى المنطقة ، وهى خسارة للعالم أجمع ، لأن الموروث الثقافى هذا عاد بالنفع على جميع طلبة العلم فى الكون أجمع وليس فى هذه المنطقة فحسب ، وما بين داعش وطالبان من دروب الفوضى والعبث ضاع الإسلام، عندما قامت طالبان من قبل بتدمير التماثيل القديمة، وهو ذات العمل الذى قام به الدواعش بتحطيم تراث الانسانية جمعاء فى الموصل، وأضافوا عليه تفجير الكنائس وهدم مسجد عمر وحرق دار المخطوطات فى الموصل .. أفعال تستفز كل إنسان، بل إن "داعش"، فاقت أفعال هولاكو كما لاحظت من خلال مقطع فيديو بثته منذ فترة يظهر عناصره وهم يهشمون القطع الأثرية فى متحف الموصل بالمطارق والحفارات اليدوية ( الدريلات) ، كما قاموا بتحطيم التماثيل الأثرية على سور نينوى الآشورى ، وأبرزها الثور المجنح ، باستخدام الحفارات اليدوية ، بدعوى أنها أصنام وثنية لا يجوز الإبقاء عليها، كما أقدمت عناصر التنظيم الإرهابى على حرق وتفجير المكتبة المركزية التى تقع فى منطقة الفيصلية وسط مدينة الموصل العراقية ، وتعدّ هذه المكتبة من أقدم المؤسسات الثقافية فى العراق وتضم آلاف الكتب والمخطوطات القديمة فى شتى العلوم والمعارف ، ويقدَّر عدد الكتب التى أُتلِفت بأكثر من عشرة آلاف ، وقد جرى بعد ذلك تفخيخ وتفجير مبنى المكتبة المكوّن من ثلاثة طوابق .
وبعد ما مضى ألا يعيد التاريخ نفسه فعلا ؟ ، ولكن بصور أشد بشاعة وإيلاما ، فإذا كان "هولاكو" قد حاول يوما تدمير بغداد وحلب دمشق ومحو حضارتها ، فقد استطاعت أن تسترد وجهها الحضارى لتأتى داعش بعد مايقرب من 800 سنة وتقوم بتدمير الحضارة فى المنطقة ذاتها ، فى محاولة لتغيير الحقائق الراسخة بأن هذه المنطقة هى أصل الحضارات والعلوم والثقافة ، وها نحن من الاستعمار الغاشم والظالم من احتلال المغول وتدميره لآثار ومكتبات العراق ، إلى الاحتلال الأمريكى ، وما يفعله داعش اليوم ، كله يهدف إلى محو الحضارات وتدمير مكتسبات الشعوب العربية والإسلامية، بينما قابعون نبكى على اللبن المسكوب !